وبعد أن أشار - سبحانه - إلى ما أحل لعباده من طيبات ، وما حظره عليهم من أفعال ، أتبع ذلك بنداء آخر إليهم نهاهم فيه عن استحلال أشياء معينة فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ . . . }
قوله : { لاَ تُحِلُّواْ } من الإِحلال الذي هو ضد التحريم . ومعننى عدم إحلالهم لشعائر الله : تقرير حرمتها عملا واعتقادا ، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله .
والشعائر : جمع شعيرة - على وزن فعلية - وهي في الأصل ما علت شعاراً على الشيء وعلامة عليه من الإِشعار بمعنى الإعلام . وكل شيء اشتهر فقد علم . يقال : شعرت بكذا .
والمراد بشعائر الله هنا : حدوده التي حدها ، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده .
ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا : مناسك الحج وما حرمه الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام . ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى .
لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم .
والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده . وقد رجحه ابن جرير بقوله : وأولى التأويلات بقوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } قول من قال : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تضيعوا فرائضه . فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه .
وإنما قلنا ذلك القول أولى ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها ، نهيا عاماً من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء . فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك .
وأضاف - سبحانه - الشعائر إليه . تشريفا لها ، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها . وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها .
وقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } معطوف على شعائر الله . والمراد به الجنس . فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم . وهي أربعة : ذو العقدة ، وذو الحجة والمحرم ، ورجب .
وسمي الشهر حراماً : باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام .
أي : لا تحلوا - أيها المؤمنون - القتال في الشهر الحرام ، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال .
قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } تحريمه ، والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال كما قال - تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وقال - تعالى - : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهراً . منها أربعة حرم " وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت . كما هو مذهب طائفة من السلف .
وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم .
واحتجوا بقوله - { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والمراد أشهر التسيير الأربعة . قالوا : فلم يستثن شهراً حراما من غيره .
والمقصود بالهدى في قوله { وَلاَ الهدي } ما يتقرب به الإِنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم ، وهو جمع هدية - بتسكين الدال - ، أي : ولا تحلوا حرمة ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله - تعالى - بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله .
وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر ، لأن فيه نفعا للناس ، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره ، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه .
وقوله : { وَلاَ القلائد } جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء . وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف ، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه .
والمراد : ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء .
وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفاً لها واعناءً بشأنها . لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر . فكأنه قيل : لا تحلوا الهدى وخصوصاً ذوات القلائد منه .
ويجوز أن يراد النهي عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها أي : لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله : وأما القلائد ففيها وجهان :
أحدهما : أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن . وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا .
والثاني : أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهي عن التعرض للهدى ، على معنى : ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها . كما قال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها .
وقوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } معطوف على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } .
وقوله : { آمِّينَ } جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم . يقال : أممت كذا أي : قصدته أي : ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثواباً . ورضواناً لتعبدهم في بيته المحرم .
ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضواناً ؟
قال بعضهم : المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة . فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله - تعالى - مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميرهم في قوله { مِّن رَّبِّهِمْ } للتشريف والتكريم .
وجملة { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من الضمير المستكن في قوله { آمِّينَ } وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف ، ومسعاهم الجليل .
أي : قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثواباً من ربهم ، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه - سبحانه - عنهم .
وعلى هذا الاقول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها ، وتكون توجيهاً عاماً من الله - تعالى - لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين ، مهما حدث بينهم من نزاع أو خلاف .
وقال آخرون : المراد بهم المشركون . واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدي من أن الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطين بن هند ، وذلك نه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله إلام تدعو ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال له : حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم . فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به .
ثم أقبل من العام القادم جارحاً ومعه تجارة عظيمة . فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التعرض له . فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزلت الآية .
وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة . وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم من الله ، فوصفهم - سبحانه - على حسب ظنهم وزعمهم . ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروي ولو في زعم المشركين .
والذي نراه أولى هو القول الأول ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه ، ولأن قوله - تعالى - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } هذا الوصف إنما يليق بالمسلم دون الكافر ، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه - سبحانه - .
قال الفخر الرازي : " أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذا الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين . والدليل عليه أول الآية وآخرها .
أما أول الآية فهو : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار .
وأما آخر الآية فهو قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال أي شيء من الشعائر التي حرم الله - تعالى - استحلالها ، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماماً بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها ، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافع شهوة الانتقام ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك .
ثم أتبع - سبحانه - هذا النهي ببيان جانب من مظاهر فضله . حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .
أي : وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد ، وأبيح لكم أيضاً كل ما كان مباحاً لكم قبل الإحرام .
وإنما خص الصيد بالذكر ، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيراً . كبيرهم وصغيرهم ، وغنيهم وفقيرهم . والإِشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا يكون إرضاء للشهوات .
والأمر في قوله : { فاصطادوا } للإِباحة ، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامزه أن يصطاد . بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإِحرام ومثله قوله - تعالى - { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } أي : أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة .
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين على أن يحملهم البعض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال - تعالى - : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .
والجلمة الكريمة معطوفة على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } لزيادة تقرير مضمونه .
ومعنى { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه ، أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة .
وأصل الجرم : قطع الثمرة من الشجرة ، أطلق على الكسب ، لأن الكاسب ينقطع لكسبه .
قال صاحب الكشاف : جرم يجري مجرى " كسب " في تعديه إلى مفعول واحد واثنين .
تقول : جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا ، نحو كستبه إياه . ويقال : أجرمته ذنبا ، على نقل المتعدي إلى معفول بالهمزة إلى مفعولين . كقولهم : أكسبته ذنبا " .
والشنآن : البغض الشديد . يقال : شئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديداً .
والمعنى : ولا يحملنكم - أيها المؤمنون - بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام ، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم ، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل ، فإن الإِسلام - وهو دين العدل والتسامح - لا يبرره ولا يقبله ، ولكن الذي يقبله الإِسلام هو احترام المسجد الحرام ، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيماناً ، ويفئ العاصي إلى رشده وصوابه .
قال ابن كثير : وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : ولا يحملنكم بغض قوم ، " قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام - وذلك عام الحديبية - ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد .
. فإن العدل واجب على كل أحد . في كل أحد ، وفي كل حال . والعدل ، به قامت السموات والأرض .
وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .
وعن زيد بن أسلم ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركني من أهل المشرق يريدون العمرة . فقال الصحابة . نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية " .
وقوله : { شَنَآنُ قَوْمٍ } مصدر مضاف لمفعوله . أي : لا يحملنكم بغضكم قوماً .
وقوله : { أَن صَدُّوكُمْ } - بفتح همزة أن - مفعول لأجله بتقدير اللام . أي : لأن صدوكم فهو متعلق بالشنآن .
وقوله { أَن تَعْتَدُواْ } في موضع نصب على أنه مفعول به .
أي : لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم .
وقراءة { أَن صَدُّوكُمْ } بفتح الهمزة - هي قراءة الجمهور ، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي ، وهي واضحة ولا إشكال عليها .
قال الجمل : وفي قراءة لأبي عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله . وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضي أن الأمر المشروط لم يقع . مع أن الصد كان قد وقع . لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست . والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكانت مكة عام الفتح في أيدي المسلمين فيكف يصدون عنه ؟ وأجيب بوجهين :
أولهما : لا نسلم أن الصد كان قيل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه .
والثاني : أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى : إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية - فلا تعتدوا -
قال بعضهم : وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل ، لأن النهي عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام ، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق ، وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } .
والبر معناه : التوسع في فعل الخير ، وإسداء المعروف إلى الناس .
والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه .
قال القرطبي : قال الماوردي : ندب الله - تعالى - إلى التعاون بالبر ، وقرنه بالتقوى له ، لأن في التقوى رضا الله ، وفي البر رضا الناس .
ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته .
والإِثم - كما يقول الراغب - اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام ، والآثم هو المتحمل للإِثم . ثم أطلق على كل ذنب ومعصية .
والعدوان : تجاود الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها .
أي : وتعاونوا - أيها المؤمنون - على كل ما هو خير وبر وطاعة لله - تعالى - ، ولا تتعاونوا على ارتكابا الآثام ولا على الاعتداء على حدوده ، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدي إلى السعادة ، أما التعاون على ما يغضب الله - تعالى - فيدؤي إلى الشقاء .
قال الآلوسي : والجملة عطف على قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } من حيث المعنى ، فكأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه ، وتعاونوا على العفو والإِغضاء .
وقال بعضهم : هو استئناف ، والوقف على { أَن تَعْتَدُواْ } لازم .
هذا ، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أبي مسعود الانصاري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أبدع بي - أي : هلكت دابتي التي أركبها - فاحملني فقال : " ما عندي " فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " وروى الإِمام مسلم - أيضاً - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه . لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " .
وقوله - تعالى - { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإِثم والعدوان . أي : اتقوا الله - أيها الناس - واخشوه فيما مركم ونهاكم ، فإنه - سبحنه شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانحرف عن طريقه القويم .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم ، وعن الإِخلال بشيء من أحكامها كما نهتهم عن أن بحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته - سبحانه - وحسن مثوبته ، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها ، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم . ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه - بكل من عصاه ، وانحرف عن هداه .
ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا )
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ( شعائر الله ) في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السي القرآني إلى الله تعظيما لها ، وتحذيرا من استحلالها .
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ؛ وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . . ) وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ؛ بل يجعلها كلها للفقراء .
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر : أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . . وقوله : ( فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) . . والأظهر القول الأول ؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في البيت الحرام : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) . .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطفالذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ؛ وقبله كذلك ؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض ، فهذا كله شيء ؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .
إنها قمة في ضبط النفس ؛ وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم ؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ؛ لا في الإثم والعدوان ؛ ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلبا لرضاه .
ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : " أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ؛ وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .
جاء ليربط القلوب بالله ؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .
وولد " الإنسان " من جديد في الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد للعرب ؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : " انصر أخاك ظالما أو مظومًا " . كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء !
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام ؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . وقول الله العظيم : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } يعني مناسك الحج ، جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعارا سمى به أعمال الحج ومواقفه لأنها علامات الحج وأعلام النسك . وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى : { ومن يعظم شعائر الله } أي دينه . وقيل فرائضه التي حدها لعباده . { ولا الشهر الحرام } بالقتال فيه أو بالنسيء . { ولا الهدي } ما أهدي إلى الكعبة ، جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح . { ولا القلائد } أي ذوات القلائد من الهدي ، وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي ، أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ، ونظيره قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له . { ولا آمين البيت الحرام } قاصدين لزيارته . { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } أن يثيبهم ويرضى عنهم ، والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له ، لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل ، وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه والتنبيه على المانع له . وقيل معناه يبتغون من الله رزقا بالتجارة ورضوانا بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة ، وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة . وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين { وإذا حللتم فاصطادوا } إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة ههنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقا . وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جدا وقرئ " أحللتم " يقال حل المحرم وأحل { ولا يجرمنكم } لا يحملنكم أو لا يكسبنكم . { شنآن قوم } شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل . وقرأ ابن عامر وإسماعيل عن نافع وابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضا مصدر كليان أو نعت بمعنى بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران . { أن صدوكم عن المسجد الحرام } لأن صدوكم عنه عام الحديبية . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم . { أن تعتدوا } بالانتقام ، وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب . ومن قرأ { يجرمنكم } بضم الياء جعله منقولا من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين . { وتعاونوا على البر والتقوى } على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } للتشفي والانتقام . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فانتقامه أشد .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خطاب للمؤمنين حقاً أن لا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حُّدة وطاعته فهي بمعنى معالم الله{[12]} ، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي { شعائر الله } حرم الله ، وقال ابن عباس { شعائر الله } مناسك الحج . وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } وقال ابن عباس أيضاً { شعائر الله } ما حد تحريمه في الإحرام . وقال عطاء بن أبي رباح ، { شعائر الله } جميع ما أمر به أو نهى عنه ، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم .
وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية ، وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه . وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح ، وتسميه : ُمنصل الأسنة وتسميه : الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح ، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفراً فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر }{[13]} وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله أعلم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته . .
قال القاضي أبو محمد : والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصاً بقريش ثم فشا في مضر ، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا . . . إذا حبست مضرجها الدماء{[14]}
قال أبو عبيدة أراد رجباً لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ، ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر . .
قال القاضي أبو محمد : فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها ، وقولنا فيها «أول » تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم .
وقوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه{[15]} ، واختلف الناس في { القلائد } فحكى الطبري عن ابن عباس أن { القلائد } هي { الهدي } المقلد وأن { الهدي } إنما يسمى هدياً ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي » الذي يقلد والمقلد منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن { الهدي } إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال { الهدي } جملة ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد ، وقال جمهور الناس : { الهدي } عام في أنواع ما أهدي قربه و { القلائد } ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من الَّسُمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل لك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني .
وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون ، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره ، وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين { البيت الحرام } على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أَم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[16]} .
وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة{[17]} وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فجاء الحطم فخلف خيلة خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره . فخرج فقال النبي عليه السلام لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر »{[18]} ، فمر بسرح من سرح{[19]} المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم . . . ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين خفاق القدم{[20]}
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجاً وساق هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه . وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن { ولا آميّن البيت الحرام }{[21]} .
قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم ، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت » بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء ، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت ، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورُضواناً » بضم الراء .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون{[22]} الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم ، وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة .
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في َحرم البشر حسنًة في فصاحة القول{[4419]} ، وقوله تعالى : { فاصطادوا } صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس ، واختلف العلماء في صيغة ( أفعل ) إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات ، فقال الفقهاء : هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة ، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل ، وقال قوم : هي على الندب حتى يدل الدليل ، وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف . ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله { أقيموا الصلاة } ، وقد تجيء للندب كقوله : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] وقد تجيء للإباحة كقوله { فاصطادوا } { وابتغوا من فضل الله } { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندباً ، وقد تجيء للوعيد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقد تجيء للتعجيز كقوله { كونوا حجارة }{[4420]} .
وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا » بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعَى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا فكسر الفاء مراعاةً وتذكراً لكسرة ألف الوصل{[4421]} ، وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } معناه ولا يكسبنكم ، وجرم الرجل معناه : كسب ، ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب ، وفي الحديث : وتكسب المعدوم ، قال أبو علي : وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب ، وقال الكسائي :جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم { يجرمنكم } معناه يحق لكم كما أن { لا جرم أن لهم النار }{[4422]} معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس { يجرمنكم } معناه يحملنكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر : [ أبو خراش الهذلي ] :
جريمةُ ناهض في رأس نيق . . . ترى لعظام ما جمعت صليبا{[4423]}
معناه كاسب قوت ناهض ، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم ، وقرأ ابن مسعود وغيره «يُجرمنكم » بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم وأما قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة . . . جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[4424]}
فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى : { شنآن قوم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شَنْآن » متحركة النون ، وقرأ ابن عامر «شنآن » ساكنة النون ، واختلف عن عاصم ونافع ، يقال شنئت الرجل شَنْأً بفتح الشين وشنآناً بفتح النون وشنآناً بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته ، قال سيبويه : كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت{[4425]} كما عدي الرفث ب «إلى » من حيث كان بمعنى الإفضاء .
قال القاضي أبو محمد : فأما من قرأ «شَنآن » بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره ، ويحتمل «الشنآن » بفتح النون أن يكون وصفاً فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم : حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ، ومنه ما أنشده أبو زيد :
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي . . . وفقأت عين الأشوس الأبيان{[4426]}
بفتح الباء وأما من قرأ «شنْآن » بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدراً وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه لياناً ، وقول الأحوص :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإن لام فيه ذو الشنان وفندا{[4427]}
إنما هو تخفيف من «شنآن » الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي قال أبو علي : من زعم أن فعلان إذا أسكنت عينه لم يك مصدراً فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفاً فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف ، فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً . وإذا قدرت اللفظة مصدراً فهو مصدر مضاف إلى المفعول ، ومما جاء وصفاً على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان .
قال القاضي أبو محمد : ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة{[4428]} للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير ، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان . وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما ُصد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما ُصددنا فنزلت الآية ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم » بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم » بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه أن وقع مثل ذلك في المستقبل .
وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم » وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير .
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون { على البر والتقوى } قال قوم : هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً بشدة العقاب ، وروي أن هذه الآية نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، قاله مجاهد . وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله}: مناسك الحج والعمرة، وذلك أن الحمس: قريشا، وخزاعة، وكنانة، وعامر بن صعصعة، كانوا يستحلون أن يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وغيرها، وكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر الله، فلما أسلموا أخبرهم الله عز وجل بأنها من شعائر الله، فقال عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (البقرة: 158). وأمر سبحانه أن يسعى بينهما، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد}: لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام، وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية من بني كنانة كان يقوم كل سنة في سوق عكاظ، فيقول: ألا إني قد أحللت المحرم، وحرمت صفرا، وأحللت كذا، وحرمت كذا، ما شاء، وكانت العرب تأخذ به، فأنزل الله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا}، يعني جنادة بن عوف، {يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله}، يعني خلافا على الله جل اسمه وعلى ما حرم، {فيحلوا ما حرم الله} (التوبة: 37) من الأشهر الحرم. ثم رجع إلى الآية الأولى في التقديم، فقال تعالى: {ولا القلائد}، كفعل أهل الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق، قال: وكان في الجاهلية من أراد الحج من غير أهل الحرم، يقلد نفسه من الشعر والوبر، فيأمن به إلى مكة، وإن كان من أهل الحرم، قلد نفسه وبعيره من لحيا شجر الحرم، فيأمن به حيث يذهب، فهذا في غير أشهر الحرم، فإذا كان أشهر الحرم، لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم وهم يأمنون حيث ما ذهبوا.
{ولا آمين البيت الحرام}: متوجهين نحو البيت، نزلت في الخطيم، يقول: لا تتعرضوا لحجاج بيت الله، {يبتغون فضلا من ربهم}، يعني الرزق في التجارة في مواسم الحج، {ورضوانا}، يعني رضوان الله بحجهم، فلا يرضى الله عنهم حتى يسلموا، فنسخت آية السيف هذه الآية كلها.
{وإذا حللتم} من الإحرام، {فاصطادوا}، يقول: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا. {ولا يجرمنكم شنآن قوم}: ولا يحملنكم عداوة المشركين من أهل مكة، {أن صدوكم عن المسجد الحرام}، يعني منعوكم من دخول البيت الحرام أن تطوفوا به عام الحديبية، {أن تعتدوا}، يعني أن ترتكبوا معاصيه، فتستحلوا أخذ الهدي والقلائد والقتل في الشهر الحرام من حجاج بكر بن وائل من أهل اليمامة، نزلت في الخطيم، واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمر بن جرثوم البكري، من بني قيس بن ثعلبة، وفي حجاج المشركين، وذلك أن شريح بن ضبيعة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اعرض علي دينك، فعرض عليه وأخبره بما له وبما عليه، فقال له شريح: إن في دينك هذا غلظا، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما قلت، فإن قبلوه كنت معهم، وإن لم يقبلوه كنت معهم. فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد دخل بقلب كافر، وخرج بوجه غادر، وما أرى الرجل بمسلم"، ثم مر على مسرح المدينة فاستاقها، فطلبوه فسبقهم إلى المدينة...
قال أبو محمد عبد الله بن ثابت: سمعت أبي يقول: قال أبو صالح: قتله رجل من قومه على الكفر، وقدم الرجل الذي قتله مسلما، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا عام الحديبية في العام الذي صده المشركون، جاء شريح إلى مكة معتمرا، معه تجارة عظيمة في حجاج بكر بن وائل، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدوم شريح وأصحابه، وعرفوا بنبئهم، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم من قبل شريح وأصحابه، فقالوا: نستأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأمروه، فنزلت الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله}، يعني أمر المناسك. ولا تستحلوا في الشهر الحرام أخذ الهدي ولا القلائد، يقول ولا تخيفوا من قلد بعيره، ولا تستحلوا القتل آمين البيت الحرام، يعني متوجهين قبل البيت الحرام من حجاج المشركين، يعني شريح بن ضبيعة وأصحابه يبتغون بتجاراتهم فضلا من الله، يعني الرزق والتجارة ورضوانه بحجهم، فنهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن قتالهم، ثم لم يرض منهم حتى يسلموا، فنسخت هذه الآية آية السيف، فقال عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5)، ثم قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
{شَنَئَانُ قَوْمٍ}: على خلاف الحق. (أحكام الشافعي: 2/183.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قول الله:"لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ"؛
فقال بعضهم: معناه: لا تحلوا حُرُمات الله، ولا تتعدّوا حدوده. كأنهم وجهوا الشعائر إلى المعالم، وتأوّلوا "لا تحلوا شعائر الله": معالم حدود الله، وأمره، ونهيه، وفرائضه.
وقال آخرون: معنى قوله: لا تُحِلّوا حَرَمَ الله، فكأنهم وجهوا معنى قوله: "شَعائِرَ اللّهِ": أي معالم حَرَم الله من البلاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا مناسك الحجّ فتضيعوها. وكأنهم وجهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدّها لكم في حجكم... عن ابن عباس، قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهُدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم، فقال الله عزّ وجلّ: "لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ".
عن مجاهد في قول الله: شَعائِرَ اللّهِ: الصفا والمروة، والهدي، والبدن، كل هذا من شعائر الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم... وكأنّ الذين قالوا هذه المقالة، وجهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حرّمها عليكم في إحرامكم.
وأولى التأويلات بقوله: "لا تُحِلّوا شَعائِرَ "لا تحلوا حُرُمات الله، ولا تضيعوا فرائضه، لأن الشعائر جمع شعيرة، والشعيرة: فعيلة من قول القائل: قد شعر فلان بهذا الأمر: إذا علم به، فالشعائر: المعالم من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: لا تستحلوا أيها الذين آمنوا معالم الله، فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحجّ، من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه، لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحقّ والباطل، يُعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى: "لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللّهِ "لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده، وإحلالها نهيا عامّا من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء، فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك كذلك.
"وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ": ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم به أعداءكم من المشركين، وهو كقوله: "يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ".
وأما الشهر الحرام الذي عناه الله بقوله: "وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ" فرجب مضر، وهو شهر كانت مضر تحرّم فيه القتال، وقد قيل: هو في هذا الموضع ذو القَعدة.
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى، وذلك في تأويل قوله: "يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ".
"وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ":
أما الهدي: فهو ما أهداه المرء من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك إلى بيت الله، تقرّبا به إلى الله وطلب ثوابه. يقول الله عزّ وجلّ: فلا تستحلوا ذلك فتغصبوا أهله عليه، ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلغوا به المحلّ الذي جعله الله مَحِله من كعبته. وقد رُوي عن ابن عباس أن الهدي إنما يكون هديا ما لم يقلّد...
وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده.
"وَلا القَلائِدَ": ولا تحلوا أيضا القلائد.
ثم اختلف أهل التأويل في القلائد التي نهى الله عزّ وجلّ عن إحلالها؛ فقال بعضهم: عنى بالقلائد: قلائد الهدي، وقالوا: إنما أراد الله بقوله: "وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ": ولا تحلوا الهدايا المقلدات منها وغير المقلدات، فقوله: "وَلا الهَدْيَ": ما لم يقلد من الهدايا، "وَلا القَلائِدَ": المقلد منها. قالوا: ودلّ بقوله: "وَلا القَلائِدَ" على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلدة. عن ابن عباس قوله: "وَلا القَلائِدَ"؛ القلائد: مقلدات الهدي، وإذا قلد الرجل هديه فقد أحرم، فإن فعل ذلك وعليه قميصه فليخلعه.
وقال آخرون: يعني ذلك: القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحجّ مقبلين إلى مكة من لحاء السّمُر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، من الشّعر. عن قتادة: قال: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحجّ تقلد من السّمُر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد.
وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلد إذا أراد الخروج من الحرم أو خرج من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء. وقال آخرون: إنما نهى الله المؤمنين بقوله: "وَلا القَلائِدَ" أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم. والذي هو أولى بتأويل قوله: "وَلا القَلائِدَ" إذ كانت معطوفة على أوّل الكلام، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهى عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه: ولا تحلوا القلائد. فإذا كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نهي من الله جلّ ذكره عن استحلال حرمة المقلّد، هديا كان ذلك أو إنسانا، دون حرمة القلادة، وأن الله عزّ ذكره إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلد، فاجتزأ بذكره القلائد من ذكر المقلد، إذ كان مفهوما عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به.
فمعنى الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا المقلد بقسميه بقلائد الحرم.
"وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ": ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام العامدية، تقول منه: أممت كذا: إذا قصدته وعَمَدته، وبعضهم يقول: يَمَمْتُه... والبيت الحرام: بيت الله الذي بمكة وقد بينت فيما مضى لم قيل له الحرام. "يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ": يلتمسون أرباحا في تجارتهم من الله "وَرِضْوَانا": وأن يرضى الله عنهم بنُسُكهم. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحُطَم... عن السديّ، قال: أقبل الحُطَم بن هند البكريّ، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة، حتى أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده، وخلّف خيله خارجة من المدينة، فدعاه فقال: إلامَ تدعو؟ فأخبره، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يَدْخُلُ اليَوْمَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ رَبِيَعةَ، يَتَكَلّمُ بلسَانِ شَيْطَان». فلما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: انظروا لعّلي أُسلم، ولي من أشاوره. فخرج من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كافِرٍ، وَخَرَجَ بعَقِبِ غادِرٍ». فمرّ بسرح من سرح المدينة، فساقه، فانطلق به
ثم أقبل من عام قابل حاجّا قد قلد وأهدى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ: "وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ" قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله خلّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا قال: «إنّهُ قَدْ قَلّدَ». قالوا: إنما هي شيء كنا نصنعه في الجاهلية. فأبى عليهم، فنزلت هذه الآية.
عن ابن عباس: "وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ" يقول: من توجّهَ حاجّا
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخا؛ فقال بعضهم: نسخ جميعها. عن مجاهد: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلّوا شعَائِرَ اللّهِ..." نسختها: "فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ...".
وقال آخرون: الذي نُسخَ من هذه الآية، قوله: "وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ".
عن ابن عباس، قوله: "لا تُحِلّوا شَعائرَ اللّهِ... إلى قوله: وَلا آميّنَ البَيْتَ" جميعا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحجّ البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: "إنّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا"، وقال: "ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ"، وقال: "إنّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ" فنفى المشركين من المسجد الحرام.
وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله: "وَلا الشّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ وَلا آميّنَ البَيْتَ الحَرَامَ" لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحُرم وغيرها من شهور السنة كلها، وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن تقدم له عَقْد ذمة من المسلمين أو أمان
وأما قوله: "وَلا أمّينَ البَيْتَ الحَرَامَ" فإنه محتمل ظاهره: ولا تُحِلّوا حرمة آمين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام، لعموم جميع من أمّ البيت. وإذا احتمل ذلك، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم، فلا شكّ أن قوله: "فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" ناسخ له، لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلهم، أمّوا البيت الحرام أو البيت المقدس في أشهر الحرم وغيرها، ما يعلم أن المنع من قتلهم إذا أمّوا البيت الحرام منسوخ، ومحتمل أيضا: ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك، وأكثر أهل التأويل على ذلك. وإن كان عُنِي بذلك المشركون من أهل الحرب، فهو أيضا لا شكّ منسوخ. وإذ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر، وكان ما كان مستفيضا فيهم ظاهر الحجة، فالواجب وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا، التسليم لما استفاض بصحته نقلهم.
"يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبّهِمْ وَرِضْوَانا":
يعني بقوله: "يَبْتَغُونَ": يطلبون ويلتمسون. والفضل: الإرباح في التجارة. والرضوان: رضا الله عنهم، فلا يحلّ بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم بحجهم بيته.
"وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا": وإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا الصيد الذي نهيتكم أن تُحلوه وأنتم حرُمُ، يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده واصطادوا إن شئتم حينئذ، لأن المعنى الذي من أَجله كنت حرّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال.
عن مجاهد، أنه قال: هي رخصة... من شاء فعل، ومن شاء لم يفعل.
"وَلا يَجْرِمَنّكُمْ": ولا يحملنكم.
"شَنَآنُ قَوْمٍ": اختلفت القراء في قراءة ذلك؛
فقرأه بعضهم: "شَنَآنُ" بتحريك الشين والنون إلى الفتح، بمعنى: بغض قوم، توجيها منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على فَعَلان نظير الطّيَران، والنّسَلان، والعَسَلان، والرّمَلان. وقرأ ذلك آخرون: "شَنْآنُ قَوْمٍ" بتسكين النون وفتح الشين، بمعنى الاسم توجيها منهم معناه إلى: لا يحملنكم بغض قوم، فيخرج شنآن على تقدير فعلان، لأن فَعَلَ منه على فَعِلَ، كما يقال: سكران من سكر، وعطشان من عطش، وما أشبه ذلك من الأسماء.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: شَنَآن بفتح النون محرّكة، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه: بغض قوم، وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم. وإذ كان ذلك موجها إلى معنى المصدر، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على الفعلان بفتح الفاء تحريك ثانيه دون تسكينه، كما وصفت من قولهم: الدّرَجان، والرّمَلان من دَرَجَ وَرَمَل، فكذلك الشنآن من شَنِئة أشنؤه شَنَآنا. عن ابن عباس: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا.
"أنْ صَدّوكُمْ عنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا": اختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرّاء الكوفيين: "أَنْ صَدّوكُمْ" بفتح الألف من «أَن» بمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وكان بعض قرّاء الحجاز والبصرة يقرأ ذلك: "وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إنْ صَدّوكُمْ" بكسر الألف من «إن» بمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدّا عن المسجد الحرام، أن تعتدوا. فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: إنْ يَصُدّكُمْ فقراءة ذلك كذلك اعتبارا بقراءته.
والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قراءة الأمصار، صحيح معنى كلّ واحدة منهما. وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صُدّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية، وأنزلت عليه سورة المائدة بعد ذلك. فمن قرأ: أنْ صَدّوكُمْ بفتح الألف من «أن» فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم أنها الناس من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم. ومن قرأ: إنْ صَدّوكُمْ بكسر الألف، فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صَدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله، لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة قد حاولوا صَدّهم عن المسجد الحرام قبل أن يكون ذلك من الصّادّين. غير أن الأمر وإن كان كما وصفت، فإن قراءة ذلك بفتح الألف أبين معنى، لأن هذه السورة لا تَدَافُع بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحُدَيْبِيَة. وإذ كان ذلك كذلك، فالصدّ قد كان تقدّم من المشركين، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادين من أجل صدّهم إياهم عن المسجد الحرام. "أنْ تَعْتَدُوا": أن تجاوزا الحدّ الذي حدّه الله لكم في أمرهم. فتأويل الآية إذن: ولا يحملنكم بُغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون أن تعتدوا حكم الله فيهم فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم. وذُكِر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذحول الجاهلية.
"وَتَعاوَنُوا على البِرّ وَالتّقْوَى وَلا تَعاوَنُوا على الإثْمِ وَالعُدْوَانِ":
وليعن بعضكم أيها المؤمنون بعضا على البرّ، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والتّقْوَى: هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. "وَلا تَعاوَنُوا على الإثْمِ وَالعُدْوَان": ولا يُعِن بعضكم بعضا على "الإثم"، يعني: على ترك ما أمركم الله بفعله. "والعُدْوَانِ": ولا على أن تتجاوزا ما حدّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. وإنما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضا بالأمر بالانتهاء إلى ما حدّه الله لكم في القوم الذين صدّوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم، والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فيهم وفي غيرهم وفي سائر ما نهاكم عنه، ولا يعن بعضكم بعضا على خلاف ذلك.
"وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ": وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه وتهديد لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره، يقول عزّ ذكره: "وَاتّقُوا اللّهَ": واحذروا الله أيها المؤمنون أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدّه فيما حدّ لكم وخالفتم أمره فيما أمركم به أن نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة، فقال عزّ ذكره: إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من خلقه، لأنها نار لا يُطْفأ حرّها، ولا يَخْمُد جمرها، ولا يسكن لهبها. نعوذ بالله منها ومن عمل يقرّبنا منها.
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى} يقتضي ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان طاعة لله تعالى، لأن البِرَّ هو طاعات الله.
{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ} نَهْيٌ عن معاونة غيرنا على معاصي الله تعالى.
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقِوَى}: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه؛ فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة (المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم).
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم، وتقوم عندهم الحجة كالذي كان، وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.
{ولا القلائد} والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة. وفي التفسير وجوه: الأول: المراد منه الهدى ذوات القلائد، وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله {وجبريل وميكال} كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا الثاني: أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها، كما قال {ولا يبدين زينتهن} فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها. الثالث: قال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية مواظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعرا بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم، أو محرما بعمرة إلى البيت، فحينئذ لا يتعرض له، فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى... {واتقوا الله إن الله شديد العقاب} والمراد منه التهديد والوعيد، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئا من محارمه إن الله شديد العقاب، لا يطيق أحد عقابه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض. واتفق الفقهاء على أن من قال: لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة. وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه، من نعل أو غيره، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام، وهي سنة البقر والغنم. قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها. أخرجه البخاري ومسلم،
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
"وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ": كل منهما إذا أفرد تضمن الآخر، فكل إثم عدوان، إذ هو فعل ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر الله به، فهو عدوان على أمره ونهيه، وكل عدوان إثم. فإنه يأثم به صاحبه، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان، بحسب متعلقهما. فالإثم: ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك. والعدوان: ما كان محرم القدر والزيادة. فالعدوان تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه، إما بأن يتعدى على ماله، أو بدنه، أو عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره. وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه. وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها، فهذا كله عدوان وتعد للعدل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[و] قوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} يعني: لا تتركوا الإهداء إلى البيت؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا؛ ولهذا لما حَج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيْفة، وهو وادي العَقيق، فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا، ثم اغتسل وتَطيَّب وصلَّى ركعتين، ثم أشعر هَدْيَه وقلَّدَه، وأهَلَّ بالحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين، من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. قال بعض السلف: إعظامها: استحسانها واستسمانها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً، بل ما يبلغ محله، بدأ به لكونه في ذلك كالصيد، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي دخلوا في هذا الدين طائعين {لا تحلوا شعائر الله} أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام، أو حدوده في جميع الدين، وشعائر الحج أدخل في ذلك، والاصطياد أولاها.
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً، أتبعه ما عممه في الزمان فقال: {ولا الشهر الحرام} أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء.
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال: {ولا الهدي} وخص منه أشرفه فقال: {ولا القلائد} أي صاحب القلائد من الهدي، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه، مع ما زاد به من شرف العقل فقال: {ولا آمين} أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين {البيت الحرام} لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده.
ولما كان المراد القصد بالزيارة بينه بقوله: {يبتغون} أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد {فضلاً من ربهم} أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه، بأن يثيبهم على ذلك، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال: {ورضواناً} وهذا ظاهر في المسلم، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام، وعلى هذا فهي منسوخة.
ولما كان التقدير: فإن لم يكونوا كذلك. أي في أصل القصد ولا في وصفه -فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً، والصيد حلال لكم، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال: {وإذا حللتم} أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار {فاصطادوا} وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً، وإن كان على سبيل المجازات بقوله: {ولا يجرمنكم} أي يحملنكم {شنئان قوم} أي شدة بغضهم.
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال: {إن} على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والتقدير في قراءة الباقين بالفتح: لأجل أن {صدوكم} أي في عام الحديبية أو غيره {عن المسجد الحرام} أي على {أن تعتدوا} أي يشتد عدوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده، وهذا قبل نزول
(إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] سنة تسع.
ولما نهاهم عن ذلك، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {وتعاونوا على البر} وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير {والتقوى} وهي كل ما يحمل على الخوف من الله، فإنه الحامل على البر، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً.
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى: {ولا تعاونوا على الإثم} أي الذنب الذي يستلزم الضيق {والعدوان} أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال: {واتقوا الله} أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر، ختم الآية بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {شديد العقاب}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}: البر: التوسع في فعل الخير، قاله الراغب، وسيأتي تحقيقه، والتقوى: اتقاء كل ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه فعلا أو تركا. والإثم: فسره الراغب بأنه كالآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، العدوان: تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها. وفي الحديث (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان (رض) أنه قال أتيت رسول الله صلى عليه وسلم فقال (جئت تسأل عن البر) وفي رواية (جئت تسأل عن البر والإثم) قلت نعم – وكان قد جاء لأجل ذلك فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما في نفسه وأجابه عنه – فقال (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) وليس هذا التفسير للبر والإثم بالمعنى الشرعي ولا اللغوي وإنما هو بيان لما يطلبه السائل من الفرقان بين ما يشتبه من البر والإثم فيشك الإنسان هل هو منهما أم لا، فأحاله صلى الله عليه وسلم في ذلك على ضميره ووجدانه وأرشده إلى الأخذ بالاحتياط الذي تسكن إليه النفس، ويطمئن به القلب، وإن خالف فتوى الذين يراعون الظاهر دون دقائق الاحتياط الخفية. كان صلى الله عليه وسلم يجيب كل سائل بحسب حالته.
كان الصحابة وسائر العرب يفهمون معنى البر وإنما كان القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم يبينان لهم خصال البر وأعماله وآياته، وما قد يغلطون في عده منه، ولذلك قال الله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى} [البقرة: 189] وكانوا في الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها إذا كانوا محرمين بالحج ويعدون هذا من النسك والبر. وقال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن سبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة:177] فهذه بيان لأهم أركان البر من الدين: الإيمان والعبادات البدنية والمالية والأخلاق. وقال تعالى: {وتناجوا بالبر والتقوى} [المجادلة: 9].
فمجموع ما ورد في البر مصداق لما فسره به الراغب من أنه التوسع في فعل الخير إذا أريد به ما يشمل الأفعال النفسية والأخلاق الحسنة باعتبار ما ينشأ عنها من الأعمال. وقد قال إنه مشتق من البر بالفتح – الذي هو مقابل البحر- بتصور سعته. وإلا قلنا إن البر اسم لمجموع ما يتقرب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والآداب والأعمال، وكل واحد منها يعد خصلة أو شعبة من البر.
أما الأمر بالتعاون على البر والتقوى فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن لأنه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا على كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا أقواما في دينهم ودنياهم، وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم، فجمع بذلك بين التحلية والتخلية، ولكنه قدم التحلية بالبر وأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو التعاون على الإثم بالمعاصي وكل ما يعوق عن البر والخير، وعلى العدوان الذي يغري الناس بعضهم ببعض، ويجعلهم أعداء متباغضين يتربص بعضهم الدوائر ببعض.
كان المسلمون في الصدر الأول جماعة واحدة يتعاونون على البر والتقوى عن غير ارتباط بعهد ونظام بشري كما هو شأن الجمعيات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره، وقد شهد الله تعالى لهم بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] ولما انتثر بأيدي الخلف ذلك العقد، ونكث ذلك العهد، صرنا محتاجين إلى تأليف جمعيات خاصة بنظام خاص لأجل جمع طوائف من المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى) في أي ركن من أركانه أو عمل من أعماله وقلما ترى أحدا في هذا العصر، يعينك على عمل من البر، ما لم يكن مرتبطا معك في جمعية ألفت لعمل معين، بل لا يفي لك بهذا كل من يعاهدك على الوفاء، فهل ترجو أن يعينك على غير ما عاهدك عليه؟ فالذي يظهر أن تأليف الجمعيات في هذا العصر، مما يتوقف عليه امتثال هذا الأمر وإقامة هذا الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما قال العلماء، فلا بد لنا من تأليف الجمعيات الدينية والخيرية والعلمية، إذا كنا نريد أن نحيى حياة عزيزة، فعلى آل الغيرة والنجدة من المسلمين أن يعنوا بها كل العناية، وإن رأوا كتب التفسير لم تعن بتفسير هذه الآية، ولم تبين لهم أنها داعية لهم إلى أقوم الطرق وأقصدها لإصلاح شأنهم في أمر دينهم ودنياهم. اللهم إنك تعلم أننا عانينا بتأليف جماعة يراد بها إقامة جميع ما تحب من البر والتقوى، وإصلاح أمر المسلمين في الدين والدنيا، (وهي جماعة الدعوة والإرشاد) اللهم أيد من أيدها، وأعن المعاونين على عملهم، واخذ من ثبط عنها، إنك انت العزيز القدير، القوي القاهر، العليم بما في السرائر.
{واتقوا الله إن الله شديد العقاب} أي اتقوا الله أيها المؤمنين بالسير على سننه التي بيناها لكم في كتابه وفي نظام خلقه، لئلا تستحقوا عقابه الذي يصيب من أعرض عن هدايته، إن الله شديد العقاب لمن لم يثق باتباع شرعه، ومراعاة سننه في خلقه، لا هوادة ولا محاباة في عقابه، لأنه لم يأمر بشيء إلا وفعله نافع وتركه ضار، ولم ينه عن شيء إلا وفعله ضار وتركه نافع. وفي معنى المأمور به كل ما رغب فيه، وفي معنى المنهي عنه كل ما رغب عنه، فلهذا كان ترك هدايته مفضيا بطبعه إلى الحرمان من المنافع والوقوع في المضار، التي منها فساد الفطرة وعمى البصيرة، وذلك إبسال للنفس يظهر أثره في الدنيا وسوء عاقبته في الآخرة. وكذلك عدم مراعاة سنن الله تعالى في خلق الإنسان وسجاياه وتأثير عقائده وأخلاقه في أعماله، وسننه في ارتقاء الإنسان في أفراده وشعوبه، كل ذلك يوقع الإنسان في الغاوية، وينتهي به إلى شر عاقبة وغاية، وإنما يظلم الإنسان نفسه ولا عتب له إلا عليها.
والعقاب هنا يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما أشرنا إليه، وقد ورد في بعض الآيات تصريح بالجمع بينهما، وفي بعضها التصريح بأحدهما كقوله في عذاب الأمم في الدنيا {وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد} [هود: 102].
ووضع اسم الجلالة المظهر في قوله: {إن الله شديد العقاب} – والمقام مقام إضمار – لما لذكر الاسم الكريم من روعة وتأثير، وذلك أدعى إلى حصول المقصود من الوعظ والتذكير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم.. منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى. وأن يروعها العدوان.. إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت؛ استجابة لدعوة إبراهيم -أبي هذه الأمة الكريم- ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام -في ظل الإسلام- وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه؛ ليحرص عليه -بشروطه- وليحفظ عقد الله وميثاقه، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام، وفي كل مكان..
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان، يدعو الله الذين آمنوا به، وتعاقدوا معه، أن يفوا بعقدهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم.. دور القوامة على البشرية؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية، والعواطف الذاتية، والملابسات العارضة في الحياة.. يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية؛ وقبله كذلك؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض، فهذا كله شيء؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر. شيء يناسب دورها العظيم:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله، إن الله شديد العقاب)..
إنها قمة في ضبط النفس؛ وفي سماحة القلب.. ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء.
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس.. التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام. وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه.
وهو تكليف ضخم؛ ولكنه -في صورته هذه- لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق طاقتها. فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره. ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن.. ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى؛ لا في الإثم والعدوان؛ ويخوفها عقاب الله، ويأمرها بتقواه، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط، وعلى التسامي والتسامح، تقوى لله، وطلبا لرضاه.
ولقد استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الرباني، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية، والاعتياد لهذا السلوك الكريم.. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه.. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور:"أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا".. كانت حمية الجاهلية، ونعرة العصبية. كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى؛ وكان الحلف على النصرة، في الباطل قبل الحق. وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق. وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله.. يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور: "انصر أخاك ظالما أو مظلومًا".. وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى، وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد!
ثم جاء الإسلام.. جاء المنهج الرباني للتربية.. جاء ليقول للذين آمنوا:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله، إن الله شديد العقاب)..
جاء ليربط القلوب بالله؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله. جاء ليخرج العرب -ويخرج البشرية كلها- من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء..
وولد "الإنسان "من جديد في الجزيرة العربية.. ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله.. وكان هذا هو المولد الجديد للعرب؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض.. ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء: "انصر أخاك ظالما أو مظلومًا". كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية، وأفق الإسلام؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور:"انصر أخاك ظالما أو مظلومًا". وقول الله العظيم: (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ويقول سبحانه:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا" أي لا تمنعوا أناسا ذاهبين إلى بيت الله الحرام ولا تصدوهم عن السبيل، فهم وفد الله وقد جاء هذا القول قبل أن ينزل الحق قوله:
{إنما المشركون نجس} (من الآية28سورة التوبة).
وكان غير المسلمين يحجون بيت الله الحرام من قبل نزول هذه الآية، فلم يكن الحكم قد صدر ونتساءل: هل الكافرون بالله يبتغون فضلا من الله؟ نعم ففضل الله يغمر الجميع حتى الكافر، لكن رضوان الله لا يكون على الكافر والفضل من التجارة التي كانوا يتاجرون بها، وفضل الله موجود حتى في أيامنا هذه على الكفار أيضا.
لكن كيف يتأتى رضوان الله على الكافر؟ إنه رضوان الله المتوهم في معتقدهم، فهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك إرضاء لله، وتتجلى دقة القرآن حين يقول: "فضلا من ربهم ورضوانا"، فلم يقل: فضلا من الله ورضوانا، لأن العبد المؤمن هو من يختص بتنفيذ التكاليف الإيمانية.
ولله عطاءان: عطاء الربوبية فهو المربي الذي استدعى إلى الكون المؤمن والكافر وسبحانه سخر الأسباب للكل، هذا هو عطاء الربوبية فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والأسباب قد تعطي المؤمن والكافر، أما عطاء الألوهية فيتمثل في "افعل "و" لا تفعل "ويقول الحق هنا:"يبتغون فضلا من ربهم". إذن فجناحا المنهج الإيماني افعل ولا تفعل ليست في بالهم ومن بعد ذلك يقول الحق: "وإذا حللتم فاصطادوا" أي إذا انتهى الإحرام، وبعد أن يخرج الحاج من الحرم ويتحلل من إحرامه فمن حقه أن يصطاد.
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام"، وقبل أن ينزل تحريم زيارة المشركين للبيت الحرام كان من حسن المعاملة ألا يأخذ المؤمنون الكفار الذين يزورون البيت الحرام فيعتدوا عليهم انتقاما لما فعله الكفار من قبل، لذلك أمر الحق المؤمنين ألا يقولوا: ها هم أولاء قد جاءوا لنا فلنرد لهم الصاع صاعين مثلما فعلوا معنا في صلح الحديبية عندما منعونا من البيت الحرام لأنكم أيها المؤمنون قد أخذتم من الله القوامة على منهجه في الأرض، والقائم على منهج الله في الأرض يجب ألا تكون له ذاتية ولا عصبية أسرية، ولا عصبية قبلية لأنه جاء ليهيمن على الدنيا كلها، ومن الصغار أن ينتقم المؤمن من الكافر عندما يأتي إلى بيت الله، ولا يليق ذلك بمهمة القوامة على منهج الله.
ولذلك قال الحق لرسوله: {إنما أنزلنا إليك الكتاب بالحق لنحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105)} (سورة النساء).
وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر لأن المسلمين هم القوام، وهم خير أمة أخرجها الله للناس كافة ولو فهم الناس أن خير الأمة الإسلامية عائد عليهم لما حاربوها.
فنحن المسلمين لسنا خيرا لأنفسنا فقط، ولكننا أمة لخير الناس جميعا ولذلك قال الحق: "لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا"، أي لا يصح أن يحملكم الغضب على قوم أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية وعندما يسمع الكفار أن الله سبحانه وتعالى يوصي من آمن به على من كفر به ماذا يكون موقفه؟ إنه يلمس رحمة الرب، وفي ذلك لذع للكفار لأنه لم يؤمن، لكن لو اعتدى المؤمن على الكافر ردا على العدوان السابق لقال الكافر لنفسه: لقد رد العدوان.
أما حين يرى الكافر أن المؤمن لم يعتد امتثالا لأمر الله بذلك عندئذ يرى أن الإسلام أعاد صياغة أهله بما يحقق لهم السمو النفسي الذي يتعالى عن الضغن والحقد والعصبية ويعبر الأداء القرآني عن ذلك بدقة، فلم يأت الدين ليكبت عواطف أو غرائز ولا يجعل الإنسان أفلاطونيا كما يدعون، ولم يقل: اكتموا بغضكم ولكنه أوضح لنا أي: لا يحملكم كرهكم وبغضكم على أن تعتدوا عليهم فسبحانه لا يمنع الشنآن وهو البغض لأنه مسألة عاطفية.
فسبحانه يعلم أن منع ذلك إنما يكبت المؤمنين وكأنه يطلب منهم الأمر المحال لذلك فالبغض من حرية الإنسان ولكن إياك أن يحملك البغض أو الكره على أن تعتدي عليهم.
ونرى سيدنا عمر يمر عليه قاتل أخيه زيد بن الخطاب يقول له أحدهم: هذا قاتل زيد، فيقول عمر: وماذا أصنع به وقد هداه الله إلى الإسلام، فإذا كان الإسلام جب الكفر ألا يجب دم أخ لعمر؟ ولكن عمر رضي الله عنه يقول لقاتل أخيه:
عندما تراني نح وجهك عني، قال ذلك لأنه يعرف دور العاطفة ويعرف أنه لا يحب قاتل أخيه، فقال قاتل أخي عمر: وهل عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي؟ فقال عمر: لا، بل تأخذ حقوقك كلها فقال قاتل أخي عمر: لا ضير إنما يبكي على الحب النساء، فالإيمان هو الذي منع عمر من أن ينتقم من قاتل أخيه.
" ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا" أي أنه سبحانه لا يمنع مواجيد المؤمنين ووجدانهم وضمائرهم وقلوبهم التي تنفعل بالبغض والكره، لأنه يعلم أن ذلك لا يطيقه الإنسان لأنها أمور عاطفية والعواطف لا يقنن لها بتشريع ولكن اعلموا أن هذه العواطف لا تبيح لكم الاعتداء.
وهكذا يتدخل الإسلام في الحركة الإنسانية ليفعل الإنسان أمرا أو يجتنب فعل أمر ما، فالإسلام لا يتدخل إلا في النزوع وهي تعبير عن مرحلة لاحقة للإدراك الذي يسبب للإنسان العاطفة محبة أو كراهية ثم يعبر الإنسان عن هذه العاطفة بالنزوع، لأن مظاهر الشعور ثلاثة: إدراك ووجدان ونزوع فحين يمشي إنسان في بستان فيه أزهار ويرى الوردة فهذا إدراك، ولا يمنع الإسلام هذا الإدراك وعندما يعجب الإنسان بالوردة ويحبها فهذه حرية لكن أن تمتد اليد لتقطف الوردة فهذا ممنوع.
إن التشريع لا يتدخل في العملية النزوعية فقط إلا في مجال واحد وهو ما يتعلق بالمرأة، إن الإسلام يتدخل من أولى المراحل من مرحلة الإدراك فالرجل حين يرى امرأة جميلة فهذا إدراك، وعندما ينشغل قلبه بحبها فهذا وجدان، لكن أن يقترب منها الإنسان فهذا نزوع.
لقد رأف الحق بالرجل أن أمره أن يغض البصر من البداية لأن الإنسان لن يستطيع مطلقا أن يفصل بين الإدراك والوجدان والنزوع فكل من الإدراك والوجدان يصنعان تفاعلا في التركيب الكيماوي للرجل فإما أن يعف الإنسان نفسه ويكبت أحاسيسه، وإما ألا يعف فيلغ في أعراض الناس، لذلك يخدم الشرع الإنسان من أول الأمر حين يأمره بغض البصر:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} (سورة النور)
هنا يتدخل الشرع من أول مرحلة الإدراك، فبعدها لا يمكن فصل النزوع عن المواجيد، لأن رؤية المرأة تحدث تفاعلا كيماويا في نفس الرجل وكذلك الرجل يحدث تفاعلا كيماويا في نفس المرأة أما الوردة فلا تحدث مثل هذا التفاعل ويستطيع الإنسان اقتناء زهرية للورود.
إذن فالمراد أن الحق سبحانه وتعالى لا يمنع المؤمن أن تجيش عواطفه البشرية بالبغض وبالكره، لأن ذلك انفعال مطلوب للإيمان وبعض من أعداء الإسلام يقول: آيات القرآن تتعارض، لأنه يقول: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم} (من الآية22 سورة المجادلة).
ويقول القرآن في موضع آخر: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} (من الآية15سورة لقمان).
والذي يتعمق جيدا يعرف أن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب ومن لا يحب، أما الود فهو عمل القلب وهذا ما نهى عنه الله بالنسبة للمشركين به، أما المعروف فالمسلم مطالب أن يفعله حتى بالنسبة لمن يكرهه.
" ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام "إذن فالحق لم يمنع البغض، ولكنه منع النزوع المترتب على الشنآن ولو وجد سبب من الأسباب كما حدث في صلح الحديبية، وبعد ذلك يأمر:"وتعاونوا على البر والتقوى".
وهذه الآية هي التي تجعل مسألة الإيمان قضية عالمية، وكلمة "تعاون" على وزن "تفاعل"، والتفاعل يأتي من اثنين مثلما" تشارك"، فهي تقتضي اثنين كأن تقول: تشارك زيد وعمرو أو شارك زيدا عمرا أو شارك عمرو زيدا وكلاهما متساو اللهم إلا تغليب واحد بأن يأتي فاعلا مرة ومفعولا مرة ثانية، والفاعل في هذه الحالة فاعل ومفعول في آن واحد.
والمفعول أيضا فاعل في الوقت نفسه.
ومثال ذلك قولنا "قاتل فلان فلانا" أي أن الاثنين اشتبكا في قتال أي مفاعلة وساعة يأتي اثنان في فعل واحد، فهناك فاعل ومفعول وهناك فرق بين أن تقول: أعن فلانا، فالمطلوب هنا أمر لواحد بالمعاونة لآخر.
وهذا يختلف عن القول: تعاون مع فلان، أي أن تتشاركا معا في المعاونة، ومسائل الحياة أكثر من أن تستوعبها موهبة واحدة، لكن التعاون خصص لكل إنسان عملا يقوم به، فهناك متخصص في كل جزئية يحتاج إليها الإنسان في حياكة الملابس والطب والصيدلة وغيرها من أوجه احتياجات الحياة، والحق يأمر: "وتعاونوا" ليسير دولاب الحياة ويستفيد الإنسان من كل المواهب لقاء إخلاصه في أداء عمله، و "تعاونوا"، هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما، ومعنى الشيء الذي فيه تفاعل أنه يوجد" معين"، و "معان".
ولكن المعين لا يظل دائما معينا، بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون معانا والمعان لا يظل معانا، بل سيأتي وقت يصير فيه معينا، وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي شاءها الله للإنسان الخليفة في الأرض والمطالب أن يعبد الله الذي لا شريك له، وأن يعمر هذه الأرض ولا تتأتى عمارة الأرض إلا بالحركة فيها، والحركة في الأرض أوسع من أن تتحملها الطاقة النفسية لفرد واحد بل لا بد أن تتكاثف الطاقات كلها لإنشاء هذه العمارة...
إذن فالتعاون أمر ضروري للاستخلاف في الحياة، ومادام الاستخلاف في الحياة يقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحا، وحين يقول الحق:"وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "أي أنه يريد كونا عامرا لا كونا خربا، والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلاحه إذن فعمارة الحياة تتطلب منا أن نتعاون على الخير لا على الإثم.
والبر ما هو؟ البر هو ما اطمأنت إليه نفسك، والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه أحد فساعة يأتي إليك أمر تريد أن تفعله وتخاف أن يراك غيرك وأنت ترتكبه فهذا هو الإثم، لأنه لو لم يكن إثما لأحببت أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك إذن قوله الحق:"وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "هو أمر لكل جماعة أن تتعاون على الخير...
إذن فحركة الحياة كلها تم بناؤها على التعاون لكن ماذا إن تعاون الناس على الإثم؟ إنهم إن فعلوا ذلك يهدمون الخير، لأن التعاون على الإثم إنما يبدأ من كل من يعين على أمر يخالف أمر الله، وأوامر الله تنحصر في" افعل "و" لا تفعل"، ما ليس فيه "افعل" و "لا تفعل"، فهو مباح إن شئت فعلته وإن شئت لا تفعله.
والذي يأمر بتطبيق" افعل "ويحزم الأمر مع" لا تفعل "وينهى عنه ويجرم من يفعله هو متعاون على البر والتقوى.
ومن يعمل ضد ذلك، يتعاون على الإثم والعدوان لأنه ينقل الأفعال من دائرة" افعل "إلى دائرة" لا تفعل "وينقل النواهي من" لا تفعل "إلى دائرة" افعل"، هذا هو التعاون على الإثم".
وقوله الحق: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" ضمن عمارة الكون وضمن منع الفساد في الكون، فالذي يرتشي والذي يسهل عملية الرشوة، وهو الوسيط والسفير بين الراشي والمرتشي ويسمى الرائش والذي يحمل الخمر والذي يدلس كل هؤلاء متعاونون على الإثم والعدوان، حتى البواب الذي يجلس على باب عمارة ويعلم أن بها شقة تدار لأعمال مشبوهة ويأخذ ثمن ذلك هو متعاون على الإثم.
نقول لكل هؤلاء: إياكم أن تفتنوا بما يدره عليكم فعل الإثم، لكن لننظر مصير كل منكم فلن يترك الله أمثالكم دون أن ينهي الواحد منهم حياته بمأساة، حتى المرأة التي استنزفت الناس بجمالها تنتهي حياتها بالضنك من العيش ثم لا تجد مأوى إلا القلوب الرحيمة التي لم تفتتن بهذا الجمال ولم تتمتع به في الحرام، لأن الرجل إن نظر إلى امرأة أعانته على الإثم سيتذكر كل المصائب التي جاءته منها فيكرهها.
لقد أراد الحق بهذا عدالة في الكون ليستقيم، وكل من يأخذ شيئا من إثم يكتوي بنار هذا الإثم في الحياة، وكل فرد فيكم مطالب بعمل حصر وإحصاء للمال الذي جاءه من عرقه وحلاله ويكتبه، والقرش الذي جاءه من حرام، وبعد ذلك يقوم بعمل حصر وإحصاء للكوارث التي أصابته وكم كلفته من مصاريف.
إنه لو فعل ذلك لوجد أن الكوارث تأخذ كل الحرام وتجور على المال الذي كسبه من حلال، ولا تختلف هذه المسألة أبدا ولا يتركها الله للآخرة فسبحانه يريد أن يعدل نظام الكون، وإلا كيف يشهد من لا يؤمن بيوم الحساب قدرة الله على إجراء التوازن في كونه؟ إن الحق أراد الحساب في الدنيا حتى لا يعربد من لا يؤمن بيوم الحساب في كون الله.
إن كل معربد سوف يرى مصير معربد سبقه كذلك الذين يتمتعون بثمرات الإثم في هذه الدنيا يجب أن يفطنوا إلى نفوسهم قبل أن يفوتهم الأوان، المعذور فقط هم الأطفال الذين لا نضج لهم ولا دراية، لأنهم يعيشون من أموال الإثم لكن ما إن يبلغ الولد الرشد وكذلك البنت ثم ترى مالا يتدفق عليها من مصادر غير حل، عليها أن تستحي من شراء "فستان" من هذا المال أو أن تأكل منه لقمة خبز، وليفطن الإنسان أن الله قد أباح للإنسان أن يسأل عن مصدر المال حتى لا يأخذ لنفسه من المال الموبوء الخبيث، وأن يسأل الإنسان الصدقة خير من أن يصرف على نفسه مالا موبوءا ولن يترك الحق مثل هذا الإنسان سائلا أبدا.
وليكتب كل واحد منكم هذا القول الكريم أمامه: "وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" وليجعلها ميزانا يزن بها صور الذين يراهم في الكون، حتى ولو كانت صورة سائق التاكسي الذي يدلس على رجل وامرأة في طريق مظلم ويأخذ أجرا على هذا ليحسب هذا الرجل النقود التي ستأتي من هذا الباب وليحسب النقود التي ستخرج على ألم فيه، أو ألم فيمن يرعى من ولد أو بنت.
" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "وصور العدوان شتى يعاني منها المجتمع وتهزه بعنف، عدوان على الوقت لأن الإنسان يأخذ أجرا على العمل ولا يقوم به، وعدوان يضر به إنسانا بأن يأخذ حقه أو أن يرتشي كل ذلك عدوان، وحتى يصير المجتمع مجتمعا إيمانيا سليما لا بد أن يحافظ على قضية الاستخلاف في الأرض، وأن يعلم أن هذا يقتضي عمارة الكون وعدم الإفساد فيه.
" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب" فكأن هذه المخالفات السابقة التي تحدث هي نتيجة عدم التعاون على البر ونتيجة التعاون على الإثم والعدوان، ولهذه المخالفة عقاب شديد أما التقوى فمعناها أن نفعل ما أمر به الله أن نفعله، وأن ننتهي عما نهى الله عنه، فلا ننقل فعلا من دائرة "لا تفعل" إلى دائرة "افعل"، وكذلك العكس، وبذلك نجعل بيننا وبين الجبار وقاية.
وبعض السطحيين قد ينظر إلى بعض من آيات القرآن ويقول: إن بها تناقضا، فيقولون: بعض من آيات القرآن تقول:"اتقوا النار"، وبعض الآيات تقول: "اتقوا الله" فهل للنار وقاية؟ وهل لله وقاية؟ وهؤلاء لا يفهمون أن "اتقوا" تعني: اجعل وقاية بينك وبين ما يؤذيك ويتعبك، ف "اتقوا الله" تعني اجعل بينك وبين عقاب الله وقاية وهي الدرع التي يقيمها الإنسان بتنفيذ أوامر الله ب "افعل" والامتثال لنواهي الله ب "لا تفعل".
وعندما تجعل بينك وبين الله وقاية، فأنت تجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وهكذا تتساوى" تقوى الله "مع" اتقاء النار".
ويذيل الحق الآية "إن الله شديد العقاب" إن ما يجعل الناس تتهاون في التعاون على البر ويجترئون على الإثم أنهم لا يجدون من مجتمعاتهم رادعا، ولو وجدوا الردع من المجتمع لحمى المجتمع أفراده من الإثم، وإن صار للمجتمع وعي إيماني لقاطع المخالفين وأشعرهم بأنهم منبوذون، وساعة يرى أمثال هؤلاء الناس أنهم منبوذون من المجتمع الإيماني فهم يرجعون إلى المنهج الحق.
فما يغري الناس على الجرائم الكبيرة إلا تهاون المجتمع في الجرائم الصغيرة ولذلك يلفتنا الحق أنه لن يترك الأمر كما تركه بعض من خلقه، لأن الخلق قد يجاملون وقد لا يقفون أمام ما يفعله بعضهم من آثام لكن الله شديد العقاب، سيأتي العقاب في وقت ليس للفرد فيه جاه من مال أو حسب أو نسب يحميه من الله، فإن أطمعك ضعف المجتمع في أن تتعاون على الإثم فعليك أن تخاف الله، لأن عقابه شديد.
وكيف يأتي العقاب إلى المذنب؟ لا نعرف، لأننا لسنا آلهة ونجد العقاب يتسلل إلى المذنب في نفسه كمرض مؤلم لا يصرف المذنب فيه ما عنده من مال فقط، لكنه قد يسأل الناس ليعالج نفسه، أو يعالج من يحب، وجنود عقاب الله قد لا تتأخر للآخرة بل تتسلل إلى حياة المذنب دون أن يعرفها وهذه هي شدة العقاب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وخلاصة الفكرة، أنَّ الإسلام يدعو إلى إقامة الحياة على التعاون، الَّذي تتجمّع فيه الطاقات، وتتنامى فيه المواقف... لتتكامل للقضايا الكبيرة عناصرها، ولتتحقق للبرّ والتقوى مصداقيتهما في حياة النّاس، وليبتعد الإنسان عن روح الفردية الّتي تغذي في داخله الشعور بالزهو الذاتي، فتضخم له شخصيته على حساب القيم والمبادئ العامة، وبذلك يتحول إلى شخصٍ جديدٍ يرى الحياة ساحة للجميع على أساس مسؤوليتهم المشتركة الكبيرة بين يدي الله.
{وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} إذ يتمثّل الإثم بالعمل الَّذي يسير في غير خط الله، انطلاقاً من كل القيم الشريرة الفاسدة، والنوازع النفسية الهابطة، كالكذب والجزع والبخل والكِبر والتجبر والتمرّد الروحي والفكري والعملي على الله سبحانه وتعالى... كما يتمثل العدوان بالاعتداء على أموال النّاس وأعراضهم ونفوسهم، وبالتنكر لكل القيم الروحية الّتي تحمي الإنسان من أخيه، لذا ينهرنا تعالى عن التعاون {عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} لأنَّهما يهدمان الحياة ويضعانها في أجواء الضياع والقلق والضلال، ويحولانها إلى غابة لا تحكمها القوانين والشرائع، بل تتحكم فيها القوّة الغاشمة العمياء، ليكون الحق للأقوى بعيداً عن ميزان العدل الَّذي يجعل القوّة للحق، والضعف للباطل. وعلى هذا الأساس، ألغى الإسلام كل العصبيات العائلية والعشائرية والإقليمية والقومية والعنصرية الّتي أكدتها قيم الجاهلية، لأنَّها لا تمثل التعاون على أساس الحق والعدل والتقوى، وتعتبر الإطار الَّذي تتحرك فيه العصبية أساساً لشرعية كل عمل تعاوني في مصلحتها، أياً كان موقعه من قضية الحق والباطل،...
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وجاءت الدعوة إلى التقوى مقرونةً بالتذكير بالصفة الإلهية الّتي تؤكد على أنَّه شديد العقاب في موضع النكال والنقمة، لتخفّف من اندفاعات النفس الذّاتية في خط الانحراف، فيواجه الإنسان الموقف بكثير من الشعور العميق بالنتائج المرعبة الّتي تنتظر السائرين على طريق الضلال بعيداً عن الله، ويتعرف كيف يتفاداها بالطاعة والسير على خط العبودية المستقيم في أفكاره ومواقفه له تعالى، وذلك هو سر الأسلوب القرآني الَّذي لا يريد للتشريع التحليلي والتحريمي أن يتعلق بالفراغ بعيداً عن حركة المسؤولية، بل يعمل على إثارة المسؤولية الثقيلة في وعي الجميع من خلال التلويح بالعقاب الشديد.