ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أجاب به المعبودون فقال : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } .
أى قال المعبودون لخالقهم - عز وجل - : " سبحانك " أى : ننزهك تنزيها تاما عن الشركاء وعن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، وليس للخلائق جميعا أن يعبدوا أحدا سواك . ولا يليق بنا نحن أو هم أن نعبد غيرك ، وأنت يا مولانا الذى أسبغت عليهم وعلى آبائهم الكثير من نعمك . " حتى نسوا الذكر " أى : حتى تركوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك " وكانوا " بسبب ذلك " قوما بورا " أى : هلكى ، جمع بائر من البوار وهو الهلاك .
قال القرطبى : وقوله { بُوراً } أى : هلكى قاله ابن عباس . . . وقال الحسن " بورا " أى : لا خير فيهم ، مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها عن الزرع فلا يكون فيها خير . وقال شَهْر بن حَوْشَب : البوار : الفساد والكساد ، من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفساد . . . وهو اسم مصدر يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث .
وهكذا ، يتبرأ المعبودون من ضلال عابديهم ، ويوبخونهم على جحودهم لنعم الله - تعالى - وعلى عبادتهم لغيره . ويعترفون لخالقهم - عز وجل - بأنه لا معبود بحق سواه .
( قالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء . ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر ، وكانوا قوما بورا ) . .
فهذا المتاع الطويل الموروث - على غير معرفة بواهب النعمة ولا توجه ولا شكر - قد آلهاهم وأنساهم ذكر المنعم ، فانتهت قلوبهم إلى الجدب والبوار . كالأرض البور لا حياة فيها ولا زرع ولا ثمار . والبوار الهلاك ، ولكن اللفظ يوحي كذلك بالجدب والخواء . جدب القلوب ، وخواء الحياة .
قرأ الأكثرون بفتح " النون " من قوله : { نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك ، لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل هم قالوا{[21435]} ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] . {[21436]} وقرأ آخرون : " مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ " أي : ما ينبغي لأحد أن يعبدنا ، فإنا عبيد لك ، فقراء إليك . وهي قريبة المعنى من الأولى .
{ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } أي : طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر ، أي : نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك .
{ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال ابن عباس : أي هلكى . وقال الحسن البصري ، ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم . وقال ابن الزبعرى حين أسلم :
يا رَسُولَ المَليك إنّ لسَاني *** رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أجاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغ *** يِّ ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُورُ
جملة : { قالوا سبحانك } جواب عن سؤال الله إياهم : { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } ، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به { يوم نحشرهم } .
وقرأ الجمهور : { نحشرهم } بالنون و { يقول } بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة . وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب { يحشرهم ويقول } كليهما بالياء . وقرأ ابن عامر { نحشرهم ونقول } كليهما بالنون .
والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد . والمعنى : أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم . ففي الكلام حذف دل عليه المذكور .
وأخبر بفعل : { أضللتم } عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل { ضلّوا } عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما على الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة . فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو : { أم هم ضلوا السبيل } .
والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم السلام .
وقولهم : { سبحانك } كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع . كقول الأعشى :
قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
وتقدم في سورة النور ( 16 ) : { سبحانك هذا بهتان عظيم } واعلم أن ظاهر ضمير { نحشرهم } أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا : { مال هذا الرسول يأكل الطعام } إلى قوله : { مسحوراً } [ الفرقان : 7 ، 8 ] ؛ لكن ما يقتضيه وصفهم ب { الظالمون } والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله : { لمن كذب بالساعة } [ الفرقان : 11 ] من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة ، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير { نحشرهم } عائداً إلى { من كذب بالساعة } فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين .
ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها .
والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد .
وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي .
وإسناد القول إلى ما يُعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقاً يسمعه عبدتها ، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر .
وإعادة فعل { ضلوا } في قوله : { أم هم ضلوا السبيل } ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوّي في نسبة الضلال إليهم . والمعنى : أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم . وحق الفعل أن يعدى ب ( عن ) ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى ( أخطؤوا ) ، أو على نزع الخافض .
و { سبحانك } تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدّعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية .
ومعنى : { ما كان ينبغي لنا } ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن ( انبغى ) مطاوع ( بغاه ) إذا طلبه . فالمعنى : لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء ، أي عباداً ، قال تعالى : { وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } [ ص : 35 ] . وقد تقدم في قوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } في سورة مريم ( 92 ) . وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديداً ، أي نتبرأ من ذلك ، لأن نفي ( كان ) وجعل المطلوب نفيه خبراً عن ( كان ) أقوى في النفي ولذلك يسمى جحوداً . والخبر مستعمل في لازم فائدته ، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله .
( ومن ) في قوله : { من دونك } للابتداء لأن أصل ( دون ) أنه اسم للمكان ، ويقدر مضاف محذوف يضاف إليه ( دون ) نحو : جلست دون ، أي دون مكانه ، فموقع ( من ) هنا موقع الحال من { أولياء } . وأصلها صفة ل { أولياء } فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً . والمعنى : لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك ، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية .
وعن ابن جني : أن ( من ) هنا زائدة . وأجاز زيادة ( من ) في المفعول .
و ( من ) في قوله : { من أولياء } مزيدة لتأكيد عموم النفي ، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي .
والأولياء : جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء ، أي على السيد والعبد ، أو الناصر والمنصور . والمراد هنا : الوليّ التابع كما في قوله : { فتكون للشيطان ولياً } في سورة مريم ( 45 ) ، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا .
وقرأ الجمهور { نتخذ } بالبناء للفاعل . وقرأه أبو جعفر { نتخذ } بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول ، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك . فموقع { من دونك } موقع الحال من ضمير { نتخذ } . والمعنى عليه : أنهم يتبرَّؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم ، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم .
والمعنى لا نتخذ من يوالينا دونك ، أي من يعبدنا دونك .
والاستدراك الذي أفاده ( لكن ) ناشىء عن التبريء من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين . والمقصود بالاستدراك ما بعد ( حتى ) وهو { نسوا الذكر } . وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قَابَلوا رحمةَ الله ونعمتَه عليهم وعلى آبائهم بالكفران ، فالخبر عن الله بأنه متّع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة ، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضباً عليهم .
وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجَوْد في أرضٍ سبخةٍ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] .
والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر ، أي القرآن ، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة ، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجرّ لهم من آبائهم الذين سنّوا لهم عبادة الأصنام . ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم .
وبهذا يظهر أن ضمير { نسوا } وضمير { كانوا } عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر .
والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض يشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة . وتقدم في قوله تعالى : { وتنسون ما تشركون } في سورة الأنعام ( 41 ) .
والذكر : القرآن لأنهُ يُتذكر به الحق ، وقد تقدم في قوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } في سورة الحجر ( 6 ) .
والبور : جمع بائر كالعُوذ جمع عائذ ، والبائر : هو الذي أصابه البوار ، أي الهلاك . وتقدم في قوله تعالى : { وأحلوا قومهم دار البوار } [ إبراهيم : 28 ] أي الموت . وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى : { يُهلكون أنفسهم } [ التوبة : 42 ] ، أي سوء حالهم في نفس الأمر و هم عنه غافلون . وقيل : البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر .
واجتلاب فعل ( كان ) وبناء { بوراً } على { قوماً } دون أن يقال : حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه ( كان ) من تمكن معنى الخبر ، وما يقتضيه ( قوماً ) من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) .
{وكانوا قوما بورا}... قال مالك عن الزهري: أي: لا خير فيهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم، أنت ولينا من دونهم، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة حتى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى قد غلب عليهم الشقاء والخِذْلان...
عن ابن عباس، قوله: وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآباءَهُمْ حتى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا، ولم تكن لهم أعمال صالحة... قال ابن زيد، في قوله:"وكانُوا قَوْما بُورا" قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي ليس فيه من الخير شيء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سبحانك} تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه. أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك. فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبيّ أو ملك أو غيرهما ندّاً، ثم قالوا: ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{قَالُواْ} يعني الأصنام {سُبْحَانَكَ} نزهوا الله تعالى أن يعبد غيره {مَا كَانَ ينبغي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} نواليهم؛ والمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نعبد نحن غيرك، فكيف ندعوا إلى عبادتنا؟! فدل هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم... {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ} أي: أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق {حتى نسوا الذكر}، أي: تركوا الإيمان بالقرآن والاتعاظ به..
ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها؛
أولها: وهو الأصح الأقوى، أن المعنى: إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعوا غيرنا إلى ذلك...
{ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا}...معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا، فإنه لولا عنادهم الظاهر، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل هم قالوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم... {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} أي: طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر، أي: نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالوا} أي المعبودات الحي منهم والجماد، المطيع والعاصي: {سبحانك} أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال... {ما كان ينبغي} أي يصح ويتصور {لنا أن نتخذ} أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك {من دونك} وكل ما سواك فهو دونك {من أولياء} أي ينفعوننا، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا... {ولكن} أي ما أضللناهم نحن، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت {متعتهم وآباءهم} في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن، وأطلت أعمارهم في ذلك {حتى نسوا الذكر} الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره... {وكانوا} في علمك بما قضيت عليهم في الأزل {قوماً بوراً} هلكى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا المتاع الطويل الموروث -على غير معرفة بواهب النعمة ولا توجه ولا شكر- قد آلهاهم وأنساهم ذكر المنعم، فانتهت قلوبهم إلى الجدب والبوار. كالأرض البور لا حياة فيها ولا زرع ولا ثمار. والبوار الهلاك، ولكن اللفظ يوحي كذلك بالجدب والخواء. جدب القلوب، وخواء الحياة
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأولياء: جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور. والمراد هنا: الوليّ التابع كما في قوله: {فتكون للشيطان ولياً} في سورة مريم (45)، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا... والذكر: القرآن لأنهُ يُتذكر به الحق..
كلمة (سبحان) أي: تنزيها لله تعالى في ذاته عن مشابهة الذوات، وتنزيها لله تعالى في صفاته وأفعاله عن مشابهة الصفات والأفعال...وقد تقال سبحان الله ويقصد بها التعجب، فحين تسمع كلاما عجيبا تقول: سبحان الله يعني: أنا أنزه أن يكون هذا الكلام حدث. لذلك يقولون هنا: {سبحانك} يعني: عجيبة أننا نضل، كيف ونحن نعبدك نجعل الآخرين يعبدوننا، والمعنى: أن هذا لا يصح منا، كيف ونحن ندعو الناس إلى عبادتك، وليس من المعقول أننا ندعوهم إلى عبادتك ونتحول نحن لكي يعبدونا...