ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة من يسعى في خراب بيوت الله ، فقال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه . . . }
يرى بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن الرومانيين الذين غزوا بيت المقدس وخربوه . ويرى آخرون أنها نزلت في كفار قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية .
وكيفما كان سبب النزول ، فالآية تشمل بذمها ووعيدها ، كل من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها .
ومن اسم استفهام يراد منه النفي ، أي : لا أظلم . والمساجد : جمع مسجد ، وهو المكان الخاص للعبادة ، مأخوذ من السجود ، وهو وضع الجبهة على الأرض خضوعاً لله وتعظيما .
والظلم : الاعتداء على حق الغير ، بالتصرف فيه بما لا يرضى به ، ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه ، والمعنيان واضحان هنا .
وذكر اسم الله كناية عما يؤدي فيها من العبادات ، إذ لا تكاد عبادة تخلو من ذكر اسمه - تعالى - :
والسعي في الأصل : المشي بسرعة في معنى الطلب والعمل .
والخراب : ضد التعمير ، ويستعمل لمعننى تعطيل المكان وخلوه مما وضع له .
قال القرطبي : " وخراب المساجد قد يكون حقيقياً ، كتخريب بختنصر والرومان لبيت المقدس حيث قذفوا فيه القاذورات وهدموه . ويكون مجازاً كمنع المشركين حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإِسلام فيها خراب لها " .
والمعنى : لا أحد أظلم ممن حال بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله ، وعمل في خرابها بالهدم كما فعل الرومان وغيرهم ببيت المقدس . أو بتعطيلها عن العبادة كما فعل كفار قريش ، فهو مفرط في الظلم بالغ فيه أقصى غاية .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فكيف قيل مساجد الله ، وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام ؟ قلت لا بأس أن يجيء الحكم عاماً ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ، كما قال - عز وجل - { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } والمنزول فيه هو الأخنس بن شريق " .
وقوله - تعالى - : { أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } معناه : ما ينبغي لأولئك الذين يحولون بين المساجد وذكر الله ويسعون في خرابها أن يدخلوها إلا خائفين من الله - تعالى - لمكانها من الشرف والكرامة بإضافتها إليه - تعالى - أو إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا عن أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها .
قال ابن كثير : " وفي هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم ، وقد أنجز الله هذا الوعد فمنع المشركني من دخول المسجد الحرام ، وذلك أنه بعد أن تم فتح مكة للمسلمين أمر النبي صلى الله عليه وسلم من العام القابل منادياً ينادي برحاب منى " ألا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " .
وعندما حج النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع لم يجترئ . أحد من المشركين أن يحج أو أن يدخل المسجد الحرام . وهذا هو الخزي في الدنيا لهم ، المشار إليه بقوله - تعالى - : { لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار ، وليس هناك أشقى ممن يعيش دنياه في هوان وذلة ، ثم ينتقل إلى أخراه فيجد مصيره العذاب الأليم الذي لا يموت فيه ولا يحيا .
ثم يعود إلى ترذيل محاولتهم تشكيك المسلمين في صحة الأوامر والتبليغات النبوية - وبخاصة ما يتعلق منها بتحويل القبلة - ويعدها سعيا في منع ذكر الله في مساجده ، وعملا على خرابها :
( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ؟ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين . لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم . ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، إن الله واسع عليم ) . .
وأقرب ما يتوارد إلى الخاطر أن هاتين الآيتين تتعلقان بمسألة تحويل القبلة ؛ وسعي اليهود لصد المسلمين عن التوجه إلى الكعبة . . أول بيت وضع للناس وأول قبلة . . وهناك روايات متعددة عن أسباب نزولهما غير هذا الوجه .
وعلى أية حال فإن إطلاق النص يوحي بأنه حكم عام في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، والسعي في خرابها . كذلك الحكم الذي يرتبه على هذه الفعلة ، ويقرر أنه هو وحده الذي يليق أن يكون جزاء لفاعليها . وهو قوله :
( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) . .
أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن ، إلا أن يلجأوا إلى بيوت الله مستجيرين محتمين بحرمتها مستأمنين وذلك كالذي ]حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادي رسول الله [ ص ] يوم الفتح : من دخل المسجد الحرام فهو آمن . . فلجأ إليها المستأمنون من جبابرة قريش ، بعد أن كانوا هم الذي يصدون رسول الله [ ص ] ومن معه ويمنعونهم زيارة المسجد الحرام ! [ . ويزيد على هذا الحكم ما يتوعدهم به من خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة :
( لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .
وهناك تفسير آخر لقوله : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) . . أي أنه ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا في خوف من الله وخشوع لجلالته في بيوته . فهذا هو الأدب اللائق ببيوت الله ، المناسب لمهابته وجلاله العظيم . . وهو وجه من التأويل جائز في هذا المقام .
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله{[2542]} وسَعَوا في خرابها على قولين :
أحدهما : ما رواه العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قال : هم النصارى . وقال مجاهد : هم النصاري ، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } هو بُخْتَنَصَّر وأصحابه ، خَرَّب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى .
وقال سعيد ، عن قتادة : قال : أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .
وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا . وروي نحوه عن الحسن البصري .
القول الثاني : ما رواه ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى وهادنهم ، وقال لهم : ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده . فقالوا : لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .
وفي قوله : { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال : إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سلمة قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }
ثم اختار ابن جرير القول الأول ، واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة . وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس .
قلت : الذي{[2543]} يظهر - والله أعلم - القول الثاني ، كما قاله ابن زيد ، وروي عن ابن عباس ؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس ، كأن دينهم أقوم من دين اليهود ، وكانوا أقرب منهم ، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك ؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى ، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ، فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 17 ، 18 ] ، وقال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] ، فقال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [ التوبة : 18 ] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها ، فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ، ورفعها عن الدنس والشرك .
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } هذا خبر معناه الطلب ، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء - إذا قَدَرُتم عليهم - من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية . ولهذا لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى : " ألا لا يَحُجَّن{[2544]} بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عُريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " . وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } الآية [ التوبة : 28 ] ، وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب ، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا{[2545]} المؤمنين منها . والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك ، لولا ظلم الكفرة وغيرهم .
وقيل : إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا ، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم . وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام ، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان ، وأن تجلى اليهود والنصارى منها ، ولله الحمد والمنة . وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [ المباركة ]{[2546]} التي بعث [ الله ]{[2547]} فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه{[2548]} . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ؛ لأن الجزاء من جنس العمل . فكما صدوا المؤمنين{[2549]} عن المسجد الحرام ، صُدوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .
وأما من فَسَّر بيت{[2550]} المقدس ، فقال كعب الأحبار : إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه{[2551]} فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } الآية ، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا .
وقال السدي : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يُضْرَب{[2552]} عُنُقُه ، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها .
وقال قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة .
قلت : وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس ، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي{[2553]} إليها اليهود ، عوقبوا شرعًا وقَدَرا بالذلة فيه ، إلا في أحيان من الدهر امتحن{[2554]} بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما عَصَوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم .
وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا ، بخروج المهدي عند السدي ، وعكرمة ، ووائل بن داود . وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون .
والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد : حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حَلبس{[2555]} سمعت أبي يحدث ، عن بُسْر{[2556]} بن أرطاة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : " اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " {[2557]} .
وهذا حديث حسن ، وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه وهو بسر{[2558]} بن أرطاة - ويقال : ابن أبي أرطاة - حديث سواه ، وسوى [ حديث ]{[2559]} " لا تقطع الأيدي في الغزو " .
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله } عام لكل من خرب مسجدا ، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة . وإن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس وخربوه وقتلوا أهله ، أو في المشركين لما منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية { أن يذكر فيها اسمه } ثاني مفعولي منع { وسعى في خرابها } بالهدم ، أو التعطيل { أولئك } أي المانعون { ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخشوع فضلا عن أن يجترئوا على تخريبها ، أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا عن أن يمنعوهم منها ، أو ما كان لهم في علم الله وقضائه ، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم وقد نجز وعده . وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في المسجد ، واختلف الأئمة فيه فجوز أبو حنيفة ومنع مالك ، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره { لهم في الدنيا خزي } قتل وسبي ، أو ذلك بضرب الجزية { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } بكفرهم وظلمهم .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( 114 )
وقوله تعالى { ومن أظلم } الآية ، { من } رفع بالابتداء ، و { أظلم } خبره ، والمعنى لا أحد أظلم( {[1141]} ) .
واختلف في المشار إليه من هذا الصنف الظالم( {[1142]} ) ، فقال ابن عباس وغيره : المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلى ببيت المقدس ويطرحون فيه الأقذار ، وقال قتادة والسدي : المراد الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء عليه السلام( {[1143]} ) ، وقيل : المعنّي بختنصر ، وقال ابن زيد : المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام( {[1144]} ) ، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة أو خرب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة( {[1145]} ) ، والمشهور مسجد بكسر الجيم ، ومن العرب من يقول مسجد بفتحها ، و { أن يذكر } في موضع نصب : إما على تقدير حذف «من » وتسلط الفعل ، وإما على البدل من المساجد ، وهو بدل الاشتمال الذي شأن البدل في أن يتعلق بالمبدل منه ويختص به أو تقوم به صفة ، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله( {[1146]} ) ، ويجوز أن تكون { أن } في موضع خفض على إسقاط حرف الجر ، ذكره سيبويه ، ومن قال من المفسرين إن الآية بسبب بيت المقدس جعل الخراب الحقيقي الموجود( {[1147]} ) ، ومن قال هي بسبب المسجد الحرام جعل منع عمارته خراباً ، إذ هو داع إليه ، ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضرباً ، قاله قتادة والسدي( {[1148]} ) ، ومن جعلها في قريش قال كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحج مشرك ، ( {[1149]} ) و { خائفين } نصب على الحال ، وهذه الآية ليست بأمر بين منعهم من المساجد ، لكنها تطرق إلى ذلك وبدأة فيها وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين( {[1150]} ) .
ومن جعل الآية في النصارى قال : الخزي قتل الحربي وجزية الذمي ، وقيل : الفتوح الكائنة في الإسلام كعمورية وهرقلة( {[1151]} ) وغير ذلك ، ومن جعلها في قريش جعل الخزي غلبتهم في الفتح وقتلهم والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافراً ، و { خزي } رفع بالابتداء وخبره في المجرور .