وبعد أن حض - سبحانه - عباده على الهجرة فى سبيله أتبع ذلك ببيان جانب من مظاهر رحمته فى التيسير عليهم فيما شرعه لهم من عبادات ، حيث أباح لهم قصر الصلاة فى حالة السفر ، وعرفهم كيف يؤدونها فى حالة الجهاد والخوف من مباغتة العدو لهم فقال - تعالى - : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ . . . عَذَاباً مُّهِيناً } .
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ( 101 ) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 102 )
قوله { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } أى : إذا سافرتم ، وأطلق الضرب فى الأرض على السفر ؛ لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته على الأرض .
والمراد من الأرض : ما يشمل البر والبحر : أى إذا سافرتم - أيها المؤمنون - فى أى مكان يسافر فيه من بر أو بحر { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أى : حرج أو إثم فى { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } أى فى أن تنقصوا منها ما خففه الله عنكم رحمة بكم .
وقوله { تَقْصُرُواْ } من القصر وهو ضد المد . يقال قصرت الشئ أى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه .
ومن فى قوله { مِنَ الصلاة } يجوز أن يكون زائدة للتأكيد فيكون لفظ الصلاة مفعولا به لتقصروا . ويجوز أن تكون للتبعيض فيكون المفعول محذوفا . والجار والمجرور فى مضوع الصفة . أى : فليس عليكم جناح فى أن تقصروا شيئا من الصلاة .
وقوله { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } جملة شرطية وجوابها محذوف دل عليه ما قبله .
والمراد بالفتنة هنا : إنزال الأذى بالمؤمنين .
أى : إن خفتم أن يتعرض لكم المشركون بما تكرهونه من القتال أو غيره حين سفركم فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .
وقوله { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } تعليل لتأكيد أخ الحذر من الكفر دائما ، لأن عداوتهم للؤمنين ظارهة ، وكراهتهم لهم شديدة .
أى : إن الكافرين كانوا وما زالوا بالنسبة لكم - أيها المؤمنون - يظهورن العداوة ، وما تخفيه صدروهم لكم من أحقاد وكراهية أشد وأكبر .
وقد أكد - سبحانه - هذه العداوة بإن الدالة على التوكيد ، وبكان المفيدة للدوام والاستمرار ، وبوصف هذه العداوة بالسفور والظهور ، لكى يحترس المسلمون منهم أشد الاحتراس .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- أن قصر الصلاة فى السفسر سنة . ومنهم من يرى أن المصلى مخير فيه كما يخير فى الكفارات . ومنهم من يرى أنه فرض .
قال القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء فى حكم القصر فى السفر ؛ فروى عن جماعة أنه فرض وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين . واحتجوا بحديث عائشة " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين " ولا حجة فيه لمخالفتها له ؛ فإنها كانت تتم فى السفر وذلك يوهنه . .
وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض . ومشهور مذهبه وجل أصحابه ، وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة . وهو الصحيح .
ومذهب عامة البغداديين من المالكين أن الفرض التخيير . ثم اختلفوا فى أيهما أفضل ، فقال بعضهم : القصر أفضل . . وقيل : الإِتمام أفضل .
أما بالنسبة لمسافة السفر التى يجوز معها قصر الصلاة للعماء فيها أقوال منها : أن السفر الذى يسوغ القصر هو ما كان مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بالسير المعتاد .
وهذا رأى الأحناف . ومن حججهم قوله صلى الله عليه وسلم : " يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليها " وأيضا ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم ، فدل هذا على أن ما دون الثلاث لا يعد سفرا ، بل هو فى حكم الإِقامة ، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج بدون محرم وعدمه . وأيضا فقد جرى عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا بسير نحو ثلاثة أيام .
أما المالكية والشافعية وأكثر الأئمة فيرون أن السفر الذى تقصر فيه الصلاة هو ما كان مسيرة يوم وليلة وقيل يوم فقط ، وذلك لما رواه ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يا أهل مكة لا تقصروا فى أدنى من أربعة برد . من مكة إلى عسفان " ، وقد قدرت هذه المسافة بمسيرة يوم وليلة أو يوم فقط .
ويرى داود الظاهرى وأتباعه أن القصر فى كل ما يسمى سفرا ، سواء أكان قصيرا أم طويلا ؛ لأن المدار عندهم فى تحقيق القصر على تحقيق شرطه وهو الضرب فى الأرض ، ولأن كلمة الضرب فى الأرض قد جاءت على إطلاقها من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة .
وقد رد جمهور العلماء عليهم بردود منها : أن الضرب فى الأرض حقيقته الانتقال من كان إلى مكان . وظاهر أن مجرد الانتقال من مكان إلى آخر لا يكون سببا فى الرخصة ، فلا بد أن يكون السفر المرخص فيه بالقصر سفرا مخصوصا ، وقد بينت السنة النبوية الشريعة مقداره على خلاف فى الروايات .
هذا ، وقد حكى القرطبى أقوال بعض العلماء فى نقد أولئك الذين يأخذون الأمور بظاهرها بدون فهم سليم فقال :
قال ابن العربى : وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره أكل وقصر وقائل هذا أعجمى لا يعرف السفر عند العرب ، أو مستخف بالدين . ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عينى ، ولا أفكر فيه بفضول قلبى . ولم يذكر حد السفر الذى يقع به القصر لا فى القرآن ولا فى السنة . وإنما كان كذلك ، لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله بالقرآن ؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لا لغة ولا شرعا . وإن من مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه يكون مسافرا قطعا . كما أننا نحكم على من مشى يوما وليلة أنه كان مسافرا ، لحديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذى محرم منها " وهذا هو الصحيح لأنه وسط بين الحالين . وعليه عول مالك . ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه ، فقد روى مرة " يوما وليلة " ومرة " ثلاثة أيام " .
ثم قال القرطبى : واختلفوا فى نوع السفر الذى تقصر فيه الصلاة . فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم . . واختلفوا فيما سوى ذلك . فالجمهور على جواز القصر فى السفر المباح كالتجارة وغيرها . وعلى أنه لا قصر فى سفر المصعية كالباغى وقاطع الطريق وما فى معناهما .
ثم قال : واختلف العلماء فى مدة الإِقامة التى إذا نواها المسافر أتم . فقال مالك والشافعى والليث بن سعد : إذا نوى الإِقامة أربعة أيام أتم .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا نوى الإِقامة خمس عشرة ليلة أتم ، وإن كان أقل من ذلك قصر .
2- ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر ، وأن المراد بالقصر فى قوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } هو القصر فى الكمية أى فى عدد الركعات ، بأن يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين ، وأن حكمها للمسافر فى حال الأمن كحكمها فى حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا .
وقد وضح هذه المسألة الإمام ابن كثير توضيحا حسنا فقال ما ملخصه : وقوله - تعالى - { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } الشرط فيه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية . إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة فى مبدئها مخوفة . بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب للإِسلام وأهله . والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له . كقوله - تعالى - { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } وقوله - تعالى - { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ } ومما يشهد بأن للمسافر أن يقصر سواء أكان آمنا أم خائفا ما رواه الترمذى والنسائى عن ابن عباس . أن النبى صلى الله عليه وسلم : خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الهل رب العالمين فصلى ركعتين .
وروى البخارى عن حارثة بن وهب الخزاعى قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .
وروى البخارى عن أنس قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة . فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة .
وروى مسلم وأحمد وأهل السنن " عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب . قلت له : قوله - تعالى - : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } . وقد أمن الناس . فقال لى عمر : عجبت مما عجبت منه . فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " " .
وروى أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان ، فقلت له : أين قوله ، { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى من هذه النصوص أنها تدل على أن الآية الكريمة مسوق فى تشريع صلاة السفر سواء أكان المسافر آمنا أم خائفا ، وأن قوله - تعالى - { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } المراد من القصر هنا قصر عدد الركعات من أربع إلى اثنين كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم فى أسفاره ، وأن القصر للصلاة فى السفر بالنظر لما كنت عليه فى الحضر .
قالوا : ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصا فى عرفهم بنقص عدد الركعات ، ما رواه البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " انصرف من اثنتين - أى صلى الصلاة الربعاية ركعتين عن سهو - فقال له ذواليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله " ؟ . . . هذا ؛ ويرى بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى صلاة الخوف ، وأن المصود بالقصر هنا هو قصر الكيفية لا الكمية - أى تخفيف ما اشتملت عليه من قراءة وتسبيح وغير ذلك - لأنهم يرون أن كمية صلاة المسافر ركعتان فهى تام غير قصر .
قال ابن كثير ما ملخصه : ومن العلماء من قال : إن المراد من القصر ها هنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدى واعتقدوا بما رواه الإِمام مالك عن عائشة أنها قالت فرضت الصلاة بكعتين فى السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد فى صلاة الحضر .
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة فى السفر حتى اثنتين فيكف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية . لأن ما هو الأصل لا يقال فيه { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } . وروى الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن عمر - رضى الله عنه - قال : صلاة السفر ركعتان ؛ وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم " .
وقال القرطبى : وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هى مبيحة للقصر فى السفر للخائف من العدو فمن كان آمنا فلا قصر له . روى عن عائشة أنها كنت تقول فى السفر : أتموا صلاتكم . فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر . فقالت : إنه كان فى حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون ؟ . . .
وذهب جماعة إلى أن الله - تعالى - لم يبح القصر فى كتابه إلا بشرطين : السفر والخوف وفى غير الخوف بالسنة .
ويبدو لنا أن الأولى ما ذهب إليه جمهور العلماء من الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر ؛ وأن المراد بالقصر فيها قصر كمية الصلاة بحيث يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين تخفيفا من الله - تعالى - عليه ، سواء أكان فى حالة أمن أم حالة خوف ، لأن النصوص التى ساقها الجمهور لتأييد رأيهم صريحة فى صحة ما ذهبوا إليه ، ولأن القصر فى اللغة منعناه أن تقتصر من الشئ على بعضه ، وهذا أظهر ما يكون فى قصر الركعات على اثنين بدل أربع ، تقتصر من الشئ على بعضه ، وهذا أظهر ما يكون فى قصر الركعات على اثنين بدل أربع ، أما القصر فى الصفة أو الكيفية فهو تغيير فى الصلاة لا إتيان بالبعض ، إذ هو إحلال للإِيماء محل الركوع والسجود - مثلا - .
وأيضا فإن { مِنَ } فى قوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } تكون أظهر من الاقتصار على بعض الركعات عند من يجعل هذا الحرف للتبعيض .
ومن أراد مزيد بيان لتلك المسائل فليرجع إلى أمهات كتب الفقه والتفسير .
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي النظام الإسلامي ، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني . . وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا . لولا ما ورد في حديث : " بني الإسلام على خمس . . . " ولكن قوة التكليف بالجهاد ؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية ؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته .
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية ؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب ، أو تخاف أمام المخاطر ، وتكسل أمام العقبات ، في خير الأزمنة وخير المجتمعات . وأن منهج العلاج في هذه الحالة ، ليس هو اليأس من هذه النفوس . ولكن استجاشتها ، وتشجيعها ، وتحذيرها ، وطمأنتها في آن واحد . وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم .
وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ؛ ويقود المجتمع المسلم ؛ ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية ؛ وطبائعها الفطرية ، ورواسبها كذلك من الجاهلية . وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن ، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله .
بعد ذلك يستطرد الى رخصة ، يبيحها الله للمهاجرين ، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة . في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى . فيفتنوهم عن دينهم . وهي رخصة القصر من الصلاة - وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف - فهذا قصر خاص .
( وإذا ضربتم في الأرض ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينًا ) . .
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه ، تعينه على ما هو فيه ، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه ، وما هو مرصود له في الطريق . . والصلاة أقرب الصلات إلى الله . وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات . فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) . .
ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب ، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار . فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله . وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله . . غير أن الصلاة الكاملة - وما فيها من قيام وركوع وسجود - قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب . أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه . أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه . . ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة .
والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص . وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية . فهذا مرخص به للمسافر إطلاقا ، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة . بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر - كفعل رسول الله [ ص ] في كل سفر - بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال .
وإذن فهذه الرخصة الجديدة - في حالة خوف الفتنة - تعني معنى جديدا غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر . إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها . كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد . حيث يصلي الضارب في الأرض قائما وسائرا وراكبا ، ويومى ء للركوع والسجود .
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه ، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة ، ويأخذ حذره من عدوه :
يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ [ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ]{[8180]} } الآية [ المزمل : 20 ] .
وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } أي : تخَفّفوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل{[8181]} الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
ومن قائل{[8182]} لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ [ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]{[8183]} } [ المائدة : 3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره . وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة .
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين " فأمره أن يصلي ركعتين " وهذا مرسل{[8184]} .
ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، تَرَخَّص ، لوجود مطلق السفر . وهذا قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، والثوري وداود ، لعموم الآية وخالفهم الجمهور . وأما قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله{[8185]} { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ] ، وكقوله :{[8186]} { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } الآية [ النساء : 23 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابَيْه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد أمَّن الله الناس{[8187]} ؟ فقال لي عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من حديث ابن جريج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون{[8188]} وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مِغْول ، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم{[8189]} .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد ، حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا شُرَيْك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الودَّاك : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عَوْن ، عن ابن سِيرِين ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذَّاء{[8190]} عن عبد الله بن عون ، به{[8191]} قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب ، وهشام ، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
قلت : وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن هُشَيم ، عن منصور بن زَاذَان ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا ربَّ العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح{[8192]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عَشْرًا .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، به{[8193]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سُفْيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين .
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عنه ، به{[8194]} ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .
وقال البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها .
وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ]{[8195]} به{[8196]} .
وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي مع{[8197]} أربع ركعات ركعتان متقبلتان .
ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به . وأخرجه مسلم من طرق ، عنه . منها عن قتيبة كما تقدم{[8198]} .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ؛ ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية . وهو قول مجاهد ، والضحاك ، والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فَأقرَّت صلاة السفر ؛ وَزِيد في صلاة الحضر .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القَعْنَبي ، والنَّسائي عن قتيبةَ ، أربعتهم عن مالك ، به{[8199]} .
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ؟
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زُبَيْد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى{[8200]} ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن زُبَيْد اليامي{[8201]} به{[8202]} .
وهذا إسناد على شرط مسلم . وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى ، عن عمر . وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله . وإن كان يحيى بن مَعين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه . وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي ، من طريق الثوري ، عن زُبَيد ، عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ]{[8203]} عن الثقة ، عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عُجْرَة ، عن عمر ، به . ، فالله أعلم{[8204]} .
وقد روى مسلم في صحيحه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد - كلاهما عن بُكَير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي : حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين ]{[8205]} فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر{[8206]} .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد ، عن طاوس نفسه{[8207]} .
فهذا ثابت عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[8208]} ولا ينافي ما تقدم عن عائشة ؛ لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم . لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ، رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ]{[8209]} } .
ولهذا قال بعدها : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ]{[8210]} } الآية{[8211]} فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ؛ ولهذا لما اعتضد{[8212]} البخاري " كتاب{[8213]} صلاة الخوف " صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
وهكذا قال جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ } الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسفان والمشركون{[8214]} بضجْنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فَهَمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم .
روى ذلك ابن أبي حاتم . ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به .
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن .
وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك الحنفي : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة{[8215]} .