ثم ذكر - سبحانه - أموراً أخرى من شأنها أن تجعل المؤمنين يقلعون عن مباطنة ومصافاة أعدائهم فى الدين فقال : { هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أى ها أنتم أولاء أيها المؤمنون تحبون هؤلاء الذين يخالفونكم فى عقيدتكم ، وتتمنون لهم الهداية والخير ، بينما هم لا يحبونكم ولا يريدون لكم إلا الشرور والهزائم والضعف .
وفى هذه الجملة الكريمة عتاب ولوم للمؤمنين الذين يلقون إلى أعدائهم بالمودة ، ويكشفون لهم عن أسرارهم ودخائلهم .
ز { هَآ } حرف تنبيه ، وقوله : { أَنْتُمْ } مبتدأ وقوله : { أولاء } خبره ، وقوله : { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } كلام مستأنف لبيان خطئهم فى موالاتهم ومحبتهم لمن يبغضونهم ويخالفونهم فى الدين .
وبعضهم جعل { أَنْتُمْ } مبتدأ ، وقوله : { أولاء } منادى حذف منه حرف النداء ، وقوله : { تُحِبُّونَهُمْ } هو الخبر عن المبتدأ .
وبعضهم جعل جملة { تُحِبُّونَهُمْ } فى موضع نصب على الحال من اسم الإشارة الذى هو الخبر .
والمراد بالكتاب فى قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه .
أى أنتم أيها المؤمنون تحبونهم وهم لا يحبونكم ، وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بشىء من كتابكم الذى أنزله الله على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم بطانة من دون إخوانكم المؤمنين ؟ لا شك أن من يفعل ذلك يكون بعيدا عن الطريق القويم ، والعقل السليم .
ثم بين - سبحانه - سبباً ثالثاً يدل على قبيح مخالطتهم ومصافاتهم فقال - تعالى - : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } .
والعض هو الإمساك بالأسنان أى تحامل الأسنان بعضها على بعض . يقال : عض يعض عضاً وعضيضاً إذا تحامل بأسنانه على الشىء .
والأنامل جمع أنملة ، وهى أطراف الأصابع . وقيل هى الأصابع .
والغيظ : أشد الغضب . وعضهم الأنامل كناية عن شدة غضبهم وتحسرهم وحنقهم على المؤمنين .
أى أن هؤلاء الذين يواليهم بعضكم أيها المؤمنون بلغ من نفاقهم وسوء ضمائرهم أنهم إذا لقوكم قالوا آمنا بدينكم وبنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وإذا خلوا ، أى خلا بعضهم ببعض أكل الحقد قلوبهم عليكم ، وسلقوكم بألسنة حداد ، وتمنوا لكم المصائب ، وأظهروا فيما بينهم أشد ألوان الغيظ نحوكم بسبب ما يرونه من ائتلافكم ، واجتماع كلمتكم ، وعجزهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفى منكم . وإلحاق الأضرار بين صفوفكم .
ومن كان كذلك فى كفره ونفاقه ، كان من الواجب على كل مؤمن أن يحتقره وأن يبتعد عنه ؛ لأنه لا يزيد للمؤمنين إلا شرا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يكبت هؤلاء المنافقين ويبقى حسرتهم فقال : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم : ولكل مؤمن من أتباعه لتحريضه على مقاطعة هؤلاء الذين لا يريدون إلا الشر .
أى : قل لهم دوموا على غيظكم واستمروا عليه إلى أن تموتوا . فإن قوة الإسلام وعزة أهله التى جعلتكم تبغضون المؤمنين ستبقى وستستمر ، وإن أحقادكم على المسلمين لن تنقص من قوتهم وعلو كلمتهم شيئاً .
فالمراد الدعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا بهن وهذا يستلزم أن يستمر ما يغيظهم ويكبتهم وهو نجاح الإسلام وقوته .
والباء فى قوله : { بِغَيْظِكُمْ } للملابسة ، أى موتوا متلبسين بغيظكم وحقدكم .
وقوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى محيط بما خفى فيها ، ومطلع على ما يبيته هؤلاء المنافقون للمسلمين ، وسيحاسبهم عليه حسابا عسيراً . ويعذبهم بسبب ذلك عذابا اليما .
قال الجمل : وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة ، أخبر الله - تعالى - بذلك . لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد . ويحتمل أن تكون من جملة المقول ، أى قل لهم كذا وكذا فتكون فى محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ الصدور } أى بالمضمرات ذوات الصدور .
فذات هنا تأنيث ذى بمعنى صاحبة الصدور . وجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب الجنة وأصحاب النار .
وفى هذه الجملة الكريمة تطييب لقلب النبى صلى الله عليه وسلم ولقلوب أصحابه . حيث بين - سبحانه - لهم أنه ناصرهم ، وأنه كاشف لهم أمر أعدائهم متى أطاعوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء الذين يضمرون لهم كل شر وضغينة بطانة لهم .
{ هاأنتم أُوْلآءِ تُحِبّونَهُمْ وَلاَ يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ها أنتم أيها المؤمنون الذين تحبونهم ، يقول : تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، فتودّونهم وتواصلونهم ، وهم لا يحبونكم ، بل ينتظرون لكم العداوة والغش ، وتؤمنون بالكتاب كله . ومعنى الكتاب في هذا الموضع ، معنى الجمع ، كما يقال : أكثر الدرهم في أيدي الناس ، بمعنى الدراهم ، فكذلك قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكِتابِ كُلّهِ } ، إنما معناه : بالكتب كلها كتابكم الذي أنزل الله إليكم ، وكتابهم الذي أنزله إليهم ، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده .
يقول تعالى ذكره : فأنتم إذ كنتم أيها المؤمنون تؤمنون بالكتب كلها ، وتعلمون أن الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم ، كفار بذلك كله ، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم ، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه ، أولى بعداوتكم إياهم ، وبغضائهم وغشهم منهم بعداوتكم وبغضائكم مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتُؤْمِنُونَ بالكِتابِ كُلّهِ } : أي بكتابكم وكتابهم ، وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم منهم لكم .
وقال : { ها أنْتُمْ أُولاءِ } ولم يقل : «هؤلاء أنتم » ، ففرّق بين «ها » و«أولاء » بكناية اسم المخاطبين ، لأن العرب كذلك تفعل في هذا إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر ، وذلك مثل أن يقال لبعضهم : أين أنت ؟ فيجيب المقول ذلك له : ها أنا ذا ، فيفرّق بين التنبيه و«ذا » بمكْنّي اسم نفسه ، ولا يكادون يقولون : هذا أنا ، ثم يثنى ويجمع على ذلك ، وربما أعادوا حرف التنبيه مع ذا ، فقالوا : ها أنا هذا ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبا ، فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان ، قالوا : هذا هو ، وهذا أنت ، وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة ، يقولون : هذا عمرو قائما ، إن كان هذا تقريبا . وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب تفرقة بين هذا إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام ، وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح . وقوله : { تُحِبّوَنَهمْ } خبر للتقريب .
وفي هذه الاَية إبانة من الله عزّ وجلّ عن حال الفريقين ، أعني المؤمنين والكافرين ، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ها أنْتُمْ أُولاءِ تُحِبّوَنَهُمْ وَلا يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكِتابِ كُلّهِ } فوالله إن المؤمن ليحبّ المنافق ويأوي له ويرحمه ، ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن يرحمه ، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه لأباد خضراءه .
وكان مجاهد يقول : نزلت هذه الاَية في المنافقين .
حدثني بذلك محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذا خَلَوْا عَضّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنِ الغَيْظِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : إن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم ، ووصفهم بصفتهم إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعطوهم بألسنتهم تقية ، حذرا على أنفسهم منهم ، فقالوا لهم : قد آمنا وصدّقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون ، عضوا على ما يرون من ائتلاف المؤمنين ، واجتماع كلمتهم ، وصلاح ذات بينهم ، { أنامِلَهُمْ } وهي أطراف أصابعهم ، تغيظا مما بهم من الموجدة عليهم ، وأَسًى على ظهر يسندون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة . وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلَوْا عَضّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } : إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم ، فصانعوهم بذلك . { وَإذَا خَلَوْا عَضّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ } يقول : مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحا لكانوا على المؤمنين ، فهم كما نعت الله عزّ وجلّ .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله ، إلا أنه قال : من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه ، ولم يقل : لو يجدون ريحا وما بعده .
حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا مسلم ، قال : ثني يحيى بن عمرو بن مالك البكري ، قال : حدثنا أبي ، قال : كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الاَية : { وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلَوْا عَضّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظ } قال : هم الإباضية .
والأنامل : جمع أَنْمُلَة ، ويقال أُنْمُلَة ، وربما جمعت أَنْمُلاً ، قال الشاعر :
أوَدّكُمَا ما بَلّ حَلْقِيَ رِيقَتِي *** وَما حَمَلَتْ كَفّايَ أَنْمُلِيَ العَشْرَا
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، الأنامل : أطراف الأصابع .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا خَلَوْا عَضّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ } : الأصابع .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قوله : { عَضّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ } قال : عضوا على أصابعهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم ، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك ، قالوا آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ : موتوا بغيظكم الذي بكم على المؤمنين ، لاجتماع كلمتهم ، وائتلاف جماعتهم .
وخرج هذا الكلام مخرج الأمر ، وهو دعاء من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمدا مما بهم من الغيظ على المؤمنين ، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم ، والضلالة بعد هداهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، اهلكوا بغيظكم ، إن الله عليم بذات الصدور ، يعني بذلك : إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين ، قالوا : آمنا ، وما ينطوون لهم عليه من الغلّ والغمّ ، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء ، وبما في صدور جميع خلقه ، حافظ على جميعهم ما هو عليه منطو من خير وشرّ ، حتى يجازي جميعهم على ما قدّم من خير وشرّ ، واعتقد من إيمان وكفر ، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة أو غِلّ وغِمْر .
{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم }
استئناف ابتدائي ، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين ، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب ، وأهل الكتاب يبغضونهم ، وكلّ إناء بما فيه يرشح ، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق .
وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 85 ] : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين ، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة .
وجملة { ولا يحبونكم } جملة حال من الضمير المرفوع في قوله : { تحبونهم } لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين .
وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط ، ولكنَّه مجرد إيقاظ ، ولذلك عقّبه بقوله : { وتؤمنون بالكتاب كله } فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين ، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه ، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ . وهذان النظران ، منّا ومنهم ، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم ، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم .
{ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } .
جملة { وتؤمنون } معطوفة على { تحبونهم } كما أن جملة { وإذا لقوكم } معطوفة على { ولا يحبونكم } وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة .
والتعريف في { الكتاب } للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاةً للفظه ، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيتِ القَيْنُقَاعي .
والعَضّ : شدّ الشيء بالأسنان . وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر . وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوساً ، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف ، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال ، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه ، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله ، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب ، وضَرب الرجل نفسه من الغضب ، وعضّه أصابعه من الغيظ ، وقرعه سنّه من النَّدم ، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر ، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها ، وهي ضروب من علامات الجزع ، وبعضها جبلّي كالصياح ، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم ، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل ، وقال الحارث بن ظالم المري :
فأقبل أقوام لئام أذلّــة *** يعضّون من غيظ رؤوس الأباهم
وقوله : { عليكم } على فيه للتَّعليل ، والضّمير المجرور ضمير المسلمين ، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة ، أي على التئامكم وزوال البغضاء ، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ آل عمران : 100 ] ، ونظير هذا التعليق قول الشاعر :
لتقرعِنّ على السنّ من ندم *** إذا تذكرتِ يوما بعضَ أخلاقي
و{ من الغيظ } ( من ) للتعليل . والغيظ : غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام .
وقوله : { قل موتوا بغيظكم } كلام لم يقصد به مخاطبون معيَّنون لأنَّه دعاء على الَّذين يعضّون الأنامل من الغيظ ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا ، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التَّعيين ولكنَّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الَّذي يقصد به عموم كُل مخاطب نحو : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] .
والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحهُ طلب موتهم بسبب غيظهم ، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت ، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم ، وهو حسن حال المسلمين ، وانتظام أمرهم ، وازدياد خيرهم ، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم ، وبتعجيل موتهم به ، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا ، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور ، والعرب تقول : فلان محسَّد ، أي هو في حالة نعمة وكمال .
{ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
تذييل لقوله : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وما بيْنها كالاعتراض أي أنّ الله مطلّع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم .