ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بما كان من بعضهم بعد أن اضطربت أحوالهم وجاءهم أعداؤهم من أمامهم ومن خلفهم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم ، فقال - تعالى - { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
وقوله : { تُصْعِدُونَ } من الإصعاد وهو الذهاب فى صعيد الأرض والإبعاد فيه .
يقال : أصعد فى الأرض إذا أبعد فى الذهاب وأمعن فيه ، فهو الصعد .
قال القرطبى : الإصعاد : السير فى مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .
والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج .
وقوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمحذوف تقديره اذكروا .
أى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة فى بطن الوادى بعد أن اختلت صفوفكم - واضطرب جمعكم . وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يتلفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب ، والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أى يناديكم فى أخراكم أو فى جماعتكم الأخرى أو من خلفكم يقال .
جاء فلان فى آخر الناس وأخراهم إذا جاء خلفهم ، كما يقال : جاء فى أولهم وأولاهم .
والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعزع ومعه نفر من أصحابه .
قال ابن جرير لما اشتد المشكرون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلىَّ عباد الله " ! فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع معجز لحال المسلمين عندما اضطربت صفوفهم فى غزوة أحد ، فهى تصور حالهم وهم مصعدون فى الوادى بدون تمهل أو تثبت ، وتصور حالهم وقد أخذ منهم الدهش مأخذه بحيث أصبح بعضهم لا يلتفت إلى غيره أو يسمع له نداء ، أو يجيب له طلبا وتصور حال النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت كالطود الأشم بدون اضطراب أو وجل ومعه صفوة من أصحابه وقد أخذ ينادى الفارين بقوله : " إلى عباد الله ، إلى عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة " .
وقوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } .
بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الاضطراب وهو معطوف على قوله { صَرَفَكُمْ } أو على قوله { تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ } ولا يضر كونهما مضارعين فى اللفظ لأن إذ المضافة إليهما صيرتهما ماضيين فى المعنى .
وأصل الإثابة إعطاء الثواب ، وهو شىء يكون جزاء على عطاء أو فعل ولفظ الثواب لا يستعمل فى الأعم الأغلب إلا في الخير ، والمراد به هنا العقوبة التى نزلت بهم . وسميت العقوبة التى نزلت بهم ثوابا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا فى حقيقته ، لأن لفظ الثواب فى أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيراً أو شراً .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } الغم فى اللغة التغطية . يقال : غممت الشىء أى غطيته . ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين .
قال مجاهد وقتادة وغيرهما ، والغم الأول القتل والجراح والغم الثانى الإرجاف بمقتل النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثانى : استعلاء المشركين عليهم . وعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم
والباء فى { بِغَمٍّ } على هذا بمعنى على . وقيل هى على بابها والمعنى أنهم غموا النبى صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم " .
ويجوز أن يكون الكلام لمجرد التكثير أى جازاكم بغموم وأحزان كثيرة متصل بعضها ببعض بأن منع عنكم نصره وحرمكم الغنيمة وأصابتكم الجراح الكثيرة وأشيع بينكم أن نبيكم قد قتل . . وكل ذلك بسبب أنكم خالفتم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وتغلب حب الدنيا وشهواتها على قلوب بعضكم فلم تخلصوا لله الجهاد فأصابكم ما أصابكم .
وقوله { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } تعليل لقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أى : ولقد عفا الله - تعالى - عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر ، ولا على ما أصابكم من جراح وآلام ، فإن عفو الله - تعالى - يذهب كل حزن ويمسح كل ألم .
وير صاحب الكشاف أن معنى " لكى لا تحزنوا " لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار .
ثم قال : ويجوز أن يكون الضمير فى { فَأَثَابَكُمْ } للرسول . أى : فآساكم فى الاغتمام - أى فصار أسوتكم - لأنه كما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرها فقد غمه ما نزل بكم . فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - عليم بأعمالكم ونياتكم علما كاملا ، وخير بما انطوت عليه نفوسكم فهو - سبحانه - لا تخفى عليه خافية مهما صغرت ، فاتقوه وراقبوه واتبعوا ما كلفكم به لتنالوا الفوز والسادة .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة :
( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ) . .
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ؛ ويثير الخجل والحياء من الفعل ، ومقدماته التي نشأ عنها ، من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا ، في اضطراب ورعب ودهش ، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول [ ص ] يدعوهم ، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح : إن محمدا قد قتل ، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول [ ص ] بفرارهم ، غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم ، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم ، وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم ، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم ، وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض ، وكل ما يصيبهم من مشقة :
( فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) . .
والله المطلع على الخفايا ، يعلم حقيقة أعمالكم ، ودوافع حركاتكم :
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيَ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولقد عفا عنكم أيها المؤمنون إذ لم يستأصلكم ، إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم ، وهربكم¹ { إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قراء الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري : { إذْ تُصْعِدُونَ } بضمّ التاء وكسر العين ، وبه القراءة عندنا لإجماع الحجة من القراء على القراءة به ، واستنكارهم ما خالفه . ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : «إذْ تَصْعَدُونَ » بفتح التاء والعين .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن .
فأما الذين قرءوا : { تُصْعِدُونَ } بضم التاء وكسر العين ، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوّهم أخذوا في الوادي هاربين . وذكروا أن ذلك في قراءة أبيّ : «إذْ تُصْعِدون في الوادي » .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون .
قالوا : الهرب في مستوى الأرض ، وبطون الأودية والشعاب ، إصعاد لا صعود ، قالوا وإنما يكون الصعود على الجبال والسلاليم والدّرَج ، لأن معنى الصعود : الارتقاء والارتفاع على الشيء علوّا . قالوا : فأما الأخذ في مستوى الأرض الهبوط ، فإنما هو إصعاد ، كما يقال : أصعدنا من مكة ، إذا ابتدأت في السفر منها والخروج ، وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان ، بمعنى خرجنا منها سفرا إليها ، وابتدأنا منها الخروج إليها . قالوا : وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوّهم في بطن الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تَلْوُونَ على أحَدٍ } ذاكم يوم أُحد أصعدوا في الوادي فرارا ، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في أخراهم ، قال : «إليّ عِبادَ اللّهِ ، إليّ عبادَ اللّهِ » .
وأما الحسن فإني أراه ذهب في قراءته : «إذْ تَصْعَدُونَ » بفتح التاء والعين إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صَعِدوا الجبل . وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما شدّ المشركون على المسلمين بأُحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة ، فقاموا عليها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : «إليّ عِبَادَ اللّهِ ، إليّ عِبادَ اللّهِ ! » فذكر الله صعودهم على الجبل ، ثم ذكر دعاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم ، فقال : { إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ على أحَدٍ والرّسُولُ يَدْعُوكُم فِي أُخْرَاكُمْ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : { إذْ تُصْعدُونَ وَلا تَلْوُونَ على أحَد } قال : صعدوا في أُحد فرارا .
قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : { إذْ تُصْعِدُونَ } بضم التاء وكسر العين ، بمعنى السبق والهرب في مستوى الأرض ، أو في المهابط ، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة . ففي إجماعها على ذلك الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالاَية تأويل من قال : أصعدوا في الوادي ، ومضوا فيه ، دون قول من قال : صعدوا على الجبل .
وأما قوله : { وَلا تَلْوْونَ على أحَدٍ } فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا من عدوّكم مصعدين في الوادي . ويعني بقوله : { وَالرّسُولُ يَدعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه في أخراكم ، يعني أنه يناديكم من خلفكم : «إليّ عِبادَ اللّهِ ، إليّ عِبادَ اللّه ! » . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } : إليّ عباد الله ارْجِعُوا ، إليّ عِبَاد اللّهِ ارْجِعُوا ! .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } : رأوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : إليّ عباد الله !
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أنّبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال : { إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوونَ على أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فيِ أُخْرَاكُمْ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } هذا يوم أُحد حين انكشف الناس عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } يعني : فجازاكم بفراركم عن نبيكم ، وفشلكم عن عدوّكم ، ومعصيتكم ربكم غما بغمّ ، يقول : غمّا على غمّ . وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوّهم عليهم حتى نال منهم ما نال ثوابا ، إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم ، فدلّ بذلك جلّ ثناؤه أن كل عوض كالمعوّض من شيء من العمل ، خيرا كان أو شرّا ، أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إليه ، فإنه مستحقّ اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة ، ونظير ذلك قول الشاعر :
أخافُ زِيادا أنْ يَكُونَ عَطاؤُهُ *** أدَاهِمَ سُودا أوْ مُحَدْرَجةً سُمْرا
فجعل العطاء العقوبة ، وذلك كقول القائل لاَخر سلف إليه منه مكروه : لأجازينك على فعلك ، ولأثيبنك ثوابك .
وأما قوله : { غَمّا بِغَمّ } فإنه قيل : غما بغمّ ، معناه : غما على غم ، كما قيل : { وَلأصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ } بمعنى : ولأصلبنكم على جذوع النخل . وإنما جاز ذلك ، لأن معنى قول القائل : أثابك الله غما على غمّ : جزاك الله غما بعد غمّ تقدّمه ، فكان كذلك معنى : فأثابكم غما بغمّ ، لأن معناه : فجزاكم الله غما بعقب غمّ تقدّمه ، وهو نظير قول القائل : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان ، وضربته بالسيف ، وعلى السيف .
واختلف أهل التأويل في الغمّ الذي أثيب القوم على الغمّ ، وما كان غمهم الأوّل والثاني ، فقال بعضهم : أما الغمّ الأوّل ، فكان ما تحدّث به القوم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل . وأما الغمّ الاَخر ، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فأثابَكُمْ غَمّا بغَمّ } كانوا تحدثوا يومئذٍ أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أصيب ، وكان الغمّ الاَخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم¹ قال : وذكر لنا أنه قتل يومئذٍ سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون رجلاً من الأنصار ، وأربعة من المهاجرين . وقوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ } يقول : ما فاتكم من غنيمة القوم ، ولا ما أصابكم في أنفسكم من القتل والجراحات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } قال : فرّة بعد فرّة ، الأولى : حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قُتِل¹ والثانية : حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين ، حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً ، ثم انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
وقال آخرون : بل غمهم الأول كان قتل من قُتل منهم ، وجرح من جُرح منهم¹ والغمّ الثاني : كان من سماعهم صوت القائل : قُتل محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { غَمّا بِغَمّ } قال : الغمّ الأول : الجراح والقتل¹ والغمّ الثاني : حين سمعوا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل . فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمْ } قال : الغمّ الأوّل : الجراح والقتل¹ والغمّ الاَخر : حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول الله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } .
وقال آخرون : بل الغمّ الأوّل ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة¹ والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب . وذلك أن أبا سفيان فيما زعم بعض أهل السير لما أصاب من المسلمين ما أصاب ، وهرب المسلمون ، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أُحد الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة ، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه ، وضع رجل سهما في قوسه ، فأراد أن يرميه ، فقال : «أنا رَسُولُ اللّهِ » ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا . فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم¹ فلما نظروا إليه ، نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمّهم أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا ، اللّهُمّ إنْ تُقْتَلْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدُ » ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم ، فقال أبو سفيان يومئذٍ : اعل هبل ! حنظلة بحنظلة ، ويوم بيوم بدر . وقتلوا يومئذٍ حنظلة بن الراهب وكان جنبا فغسلته الملائكة ، وكان حنظلة بن أبي سفيان قُتل يوم بدر¹ قال أبو سفيان : لنا العزّى ، ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : «قُلِ اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلى لَكُمْ » . فقال أبو سفيان : فيكم محمد ؟ قالوا : نعم ، قال : أما إنها قد كانت فيكم مثلة ، ما أمرت بها ، ولا نهيت عنها ، ولا سرّتني ، ولا ساءتني . فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم ، فقال : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } الغمّ الأوّل : ما فاتهم من الغنيمة والفتح¹ والغمّ الثاني : إشراف العدوّ عليهم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون ، فشغلهم أبو سفيان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا فيما ذكروا من حديث أُحد ، قالوا : كان المسلمون في ذلك اليوم لما أصابهم فيه من شدّة البلاء أثلاثا : ثلث قتيل ، وثلث جريح ، وثلث منهزم ، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع ، وحتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثّ بالحجارة حتى وقع لشقه ، وأصيبت رباعيته ، وشُجّ في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص . وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل ، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي ، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بني سلمة ، قال : عرفت عينيه تزهران تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأشار إليّ رسول الله أن أنصت . فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض نحو الشعب معه عليّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوّام ، والحارث بن الصامت في رهط من المسلمين . قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللّهُمّ إنّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أن يَعْلُونا » فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين ، حتى أهبطوهم عن الجبل . ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدّن ، فظاهر بين درعين ، فلما ذهب لينهض ، فلم يستطع ، جلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض حتى استوى عليها ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ، ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فعالِ ، إن الحرب سجال ، يوم بيوم بدر ، أعل هبل ! أي أظْهِرْ دينك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : «قُمْ فأجِبْهُ فَقُلْ : اللّهُ أعْلَى وأجَلّ ، لا سَوَاءٌ ، قَتْلانا في الجَنّةِ ، وقَتْلاَكُمْ فِي النّارِ » فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : هلمّ إليّ يا عمر ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ائْتِهِ فانْظُرْ ما شأْنُهُ ! » فجاءه فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر ، أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر : اللهمّ لا ، وإنه ليسمع كلامك الاَن . فقال : أنا أصدق عندي من ابن قميئة ، وأشار لقول ابن قميئة لهم : إني قتلت محمدا . ثم نادى أبو سفيان ، فقال : إنه قد كان في قتلاكم مثله ، والله ما رضيت ، ولا سخطت ، ولا نهيت ، ولا أمرت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } : أي كربا بعد كرب قتلُ من قُتل من إخوانكم ، وعلوّ عدوّكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : قتل نبيكم ، فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من ظهوركم على عدوّكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ، ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم¹ حتى فرّجت بذلك الكرب عنكم ، والله خبير بما تعلمون . وكان الذي فرّج عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم أن الله عزّ وجلّ ردّ عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّا بين أظهرهم ، هان عليهم ما فاتهم من القوم ، فهان الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم ، حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } قال ابن جريج : قال مجاهد : أصاب الناس حزن وغمّ على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا ، فلما تولجوا في الشعب يتصافون وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب ، فظنّ المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا ، فأصابهم حزن في ذلك أيضا أنساهم حزنهم في أصحابهم ، فذلك قوله : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ } قال ابن جريج : قوله : { على ما فاتَكُمْ } يقول : على ما فاتكم من غنائم القوم { ولا مَا أصَابَكُمُ } في أنفسكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن عبيد بن عمير ، قال : جاء أبو سفيان بن حرب ، ومن معه ، حتى وقف بالشعب ، ثم نادى : أفي القوم ابن أبي كبشة ؟ فسكتوا ، فقال أبو سفيان : قتل وربّ الكعبة ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فسكتوا ، فقال : قتل وربّ الكعبة ! ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ فسكتوا ، فقال : قتل وربّ الكعبة ! ثم قال أبو سفيان : اعل هبل ، يوم بيوم بدر ، وحنظلة بحنظلة ، وأنتم واجدون في القوم مُثلاً لم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا ، ولم نكرهه حين رأيناه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : «قُمْ فَنادِ فَقُلْ : اللّهُ أعْلَى وأجَلّ ، نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا¹ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار » .
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } فرجعوا فقالوا : والله لنأتينهم ، ثم لنفتلنهم ، قد خرجوا منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَهْلاً فإنّمَا أصَابَكُمْ الّذي أصَابَكُمْ مِنْ أجْلِ أنّكُمْ عَصَيْتُمُونِي » . فبينما هم كذلك ، إذ أتاهم القوم ، قد أنسوا ، وقد اخترطوا سيوفهم ، فكان غمّ الهزيمة وغمهم حين أتوهم¹ { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ } من القتل { وَلا ما أصَابَكُمْ } من الجراحة { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا } . . . الاَية ، وهو يوم أُحد .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : معنى قوله : { فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ } أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين ، والظفر بهم ، والنصر عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم ربكم ، وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ، غمّ ظنكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم .
والذي يدلّ على أن ذلك أولى بتأويل الاَية مما خالفه ، قوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } والفائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم ، إما من ظهور عليهم بغلبهم ، وإما من غنيمة يحتازونها ، وأن قوله : { وَلا ما أصَابَكُمْ } هو ما أصابهم إما في أبدانهم ، وإما في إخوانهم . فإن كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الغمّ الثاني هو معنى غير هذين ، لأن الله عزّ وجلّ أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه ثابهم غما بغمّ ، لئلا يحزنهم ما نالهم من الغمّ الناشىء عما فاتهم من غيرهم ، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم ، وهو الغمّ الأول على ما قد بيناه قبل .
وأما قوله : لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } فإن تأويله على ما قد بينت من أنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوّكم بالظفر عليهم والظهور وحيازة غنائمهم ، ولا ما أصابكم في أنفسكم من جرح من جُرح وقَتل من قُتل من إخوانكم .
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبل على السبيل التي اختلفوا فيه ، كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِكَيْلا تَحْزَنُوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ } قال : على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون ، { وَلا ما أصَابَكُمْ } من الهزيمة .
وأما قوله : { وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْلَمُونَ } فإنه يعني جلّ ثناؤه : والله بالذي تعلمون أيها المؤمنون من إصعادكم في الوادي هربا من عدوكم ، وانهزامكم منهم ، وتنرككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم ، وحزنكم على ما فاتكم من عدوّكم ، وما أصابكم في أنفسهم ذو خبرة وعلم ، وهو محص ذلك كله عليكم حتى يجازيكم به المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، أو يعفو عنه .
{ إذ تصعدون } متعلق بصرفكم ، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا . والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة . { ولا تلوون على أحد } لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره . { والرسول يدعوكم } كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة . { في أخراكم } في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى { فأثابكم غما بغم } عطف على صرفكم ، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم ، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له . { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق . وقيل { لا } مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم . وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم ، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة { والله خبير بما تعملون } عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ }
العامل في { إذ } قوله : { عفا } [ آل عمران : 152 ] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد » ومعناه : ذهب في الأرض ، وفي قراءة أبي بن كعب ، «إذ تصعدون في الوادي » .
قال القاضي أبو محمد : والصعيد وجه الأرض ، وصعدة اسم من أسماء الأرض ، فأصعد معناه : دخل في الصعيد ، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك ، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها ، إذا استقبلوا سفراً بعيداً وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل : [ الرجز ]
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ على الإصْعادِ . . . فَالآنَ صرَّحَتِ وَصَاحَ الحادِي
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيدي{[3615]} ومجاهد وقتادة «إذ تَصعَدون » بفتح التاء والعين ، من صعد إذا علا ، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر ، وقوله تعالى { ولا تلوون } مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد :
وهل يرد المنهزم شيء ؟ . . . وهذا أشد من قول امرىء القيس : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أخو الْجَهْدِ لاَ يلْوي على من تَعَذَّرا{[3616]}
وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون » بالياء فيهما على ذكر الغيب ، وقرأ بعض القراء «ولا تلؤون » بهمز الواو المضمومة ، وهذه لغة ، وقرأ بعضهم «ولا تلون » بضم اللام وواو واحدة ، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين ، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تُلوون » بضم التاء من ألوى وهي لغة ، وقرأ حميد بن قيس «على أُحُد » بضم الألف والحاء ، يريد الجبل ، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام ، لأنه كان على ا لجبل ، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم ، وروي أنه كان ينادي : ( إليَّ عباد الله ){[3617]} ، والناس يفرون . وفي قوله تعالى : { في أخراكم } مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس ، ومنه قول الزبير بن باطا{[3618]} ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس ، ومنه قول سلمة بن الأكوع ( كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ) {[3619]} ، وقوله تعالى : { فأثابكم } معناه : جازاكم على صنيعكم ، وسمي الغم ثواباً على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب ، وهذا كقوله : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَحِيَّةُ بَيْنهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ{[3620]} ***
وكقول الآخر : [ الفرزدق ] : [ الطويل ]
أخَافُ زِياداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ . . . أَدَاهِمَ سوداً أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا{[3621]}
فجعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة : بمعنى مدحرجة ، واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { غماً بغم } فقال قوم : المعنى «أثابكم غماً » بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين ، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم .
قال القاضي أبو محمد : فالباء على هذا باء السبب ، وقال قوم : { أَثابكم غماً بغم } ، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر .
قال القاضي أبو محمد : فالباء باء معادلة ، كما قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال ، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين : المعنى أثابكم غماً على غم ، أو غماً مع غم ، وهذه باء الجر المجرد ، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد : الغم الأول أن سمعوا : ألا إن محمداً قد قتل ، والثاني ، القتل والجراح الواقعة فيهم ، وقال الربيع وقتادة أيضاً بعكس هذا الترتيب ، وقال السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما : بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق ، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه ، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه ، فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا بذلك ، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع ، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر ، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة ، فنسوا ما نزل بهم أولاً ، وأهمهم أمر أبي سفيان ، فقال رسول الله عليه وسلم : ( ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد ){[3622]} ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة ، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم . واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة -أحد - اختلافاً كثيراً ، وذلك أن الأمر هول ، فكل أحد وصف ما رأى وسمع ، قال كعب بن مالك : أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر{[3623]} ، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد ، وأن أبا سفيان إنما دنا ، والنبي عليه السلام في عرعرة{[3624]} الجبل ، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير ، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية ، وقوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } معناه : من الغنيمة و { ما أصابكم } معناه : من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم .
قال القاضي أبو محمد : واللام من قوله : { لكيلا } متعلقة بأثابكم ، المعنى : لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم آذيتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى : { والله خبير بما تعملون } توعد .