ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية التى بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } ؟
قال الإمام ابن جرير : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - عما هو قائل يوم القيامة ، لهؤلاء العادلين به من مشركى الإنس والجن ، يخبر أنه - تعالى - يقوله لهم : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } يقول : يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع حججى ، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدى وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى حدودى ، { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } يقول : يحذرونكم لقاء عذابى فى يومكم هذا وعقابى على معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى ، وهذا من الله - تعالى - تقريع لهم وتوبيخ على ما سلف منهم فى الدنيا من الفسوق والمعاصى ومعناه ، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله ، فلم تقبلوا ولم تتذكروا " .
وقوله { رُسُلٌ مِّنْكُمْ } استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس ، وإنما قيل : رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان فى الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما ، كقوله : " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، وإنما يخرجان من أحدهما وهو الماء الملح دون العذب .
قال أبو السعود : والمعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم : لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصة ، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما ذاتا ، واتحادهما تكليفا وخطابا .
كأنهما من جنس واحد ، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر ، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأنذروا بما سمعوه . أقوامهم ، إذ حكى القرآن عنهم أنهم { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } وأنهم قالوا لهم : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وقال صاحب المنار ، وجملة القول فى الخلاف أنه ليس فى المسألة نص قطعى ، والظواهر التى استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس ، لأن الكلام معهم ، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال إن الرسل من الفريقين . والجن عالم غيبى لا نعرف عنه ألا ما ورد به النص . وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله - تعالى - " .
ثم يحكى القرآن أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال : { قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا } أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا ، ولم يقصروا فى تبليغنا وإرشادنا .
وقوله - سبحانه - { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، وباعوا آخرتهم بدنياهم . { وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } أى : شهدوا على أنفسهم عندما وقفوا بين يدى الله للحساب فى الآخرة أنهم كانوا كافرين فى الدنيا بما جاءتهم به الرسل .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما لهم مقرين فى هذه الآية - على أنفسهم بالكفر - جاحدين فى قوله { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قلت : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون وأخرى يجحدون ، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم ، فإن على أفواههم . فإن قلت : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ قلت :
الأولى : حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون .
والثانية : ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة وكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، والاستسلام لربهم ، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم " .
هذا ، وإنك لتقرأ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التى تصور مشهداً من مشاهد يوم القيامة فيخيل إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم ، والضالين والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير :
( يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
وهو سؤال للتقرير والتسجيل . فالله - سبحانه - يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا . والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة . .
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس . . فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس ؟ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر . ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون ما أنزل على الرسل ، وينطلقون إلى قومهم منذرين به . كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء . أولئك في ضلال مبين . . فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة . . والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه !
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس ، أن السؤال ليس على وجهه . إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل ؛ كما أنه للتأنيب والتوبيخ ؛ فأخذوا في الاعتراف الكامل ؛ وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه :
( قالوا : شهدنا على أنفسنا ) :
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول :
( وغرتهم الحياة الدنيا ؛ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ؛
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا . فقد غرتهم هذه الحياة ؛ وقادهم الغرور إلى الكفر . ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به ؛ حيث لا تجدي المكابرة والإنكار . . فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق ، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه ، ولا بكلمة الإنكار ! ولا بكلمة الدفاع !
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة ؛ ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً ؛ وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً !
إن هذ القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة ؛ وفي هذه الأرض المعهودة . ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب ؛ ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد ! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة ؛ ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل ! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد !
( وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم - كانوا - كافرين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هََذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجنّ ، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذٍ : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يقول : يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي ، وتصديق أنبيائي ، والعمل بأمري والانتهاء إلى حدودي . وَيُنْذِرُونَكُم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يقول : يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياي ، فتنتهوا عن معاصيّ . وهذا من الله جلّ ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ، ومعناه : قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطإ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين ، فلم تقبلوا ذلك ولم تتذكروا ولم تعتبروا .
واختلف أهل التأويل في الجنّ ، هل أرسل منهم إليهم أم لا ؟ فقال بعضهم : قد أرسل إليه رسل كما أرسل إلى الإنس منهم رسل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سئل الضحاك عن الجنّ : هل كان فيهم نبيّ قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع إلى قول الله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني بذلك : رسلاً من الإنس ورسلاً من الجنّ ؟ فقالوا : بلى .
وقال آخرون : لم يرسل منهم إليهم رسول ، ولم يكن له من الجنّ قطّ رسول مرسل ، وإنما الرسل من الإنس خاصة . فأما من الجنّ فالنّذْر . قالوا : وإنما قال الله : ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ والرسل من أحد الفريقين ، كما قال : مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم قال : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح دون العذب منهما وإنما معنى ذلك : يخرج من بعضهما أو من أحدهما . قال : وذلك كقول القائل لجماعة أدؤر إن في هذه الدور لشرّا ، وإن كان الشرّ في واحدة منهنّ ، فيخرج الخبر عن جميعهنّ والمراد به الخبر عن بعضهنّ ، وكما يقال : أكلت خبزا ولبنا : إذا اختلطا ولو قيل : أكلت لبنا ، كان الكلام خطأ ، لأن اللبن يشرب ولا يؤكل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ قال : جمعهم كما جمع قوله : وَمِنْ كُلَ تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ولا يخرج من الأنهار حلية . قال ابن جريج : قال ابن عباس : هم الجن لَقُوا قومهم ، وهم رسل إلى قومهم .
فعلى قول ابن عباس هذا ، أن من الجنّ رسلاً للإنس إلى قومهم .
فتأويل الاَية على هذا التأويل الذي تأوّله ابن عباس : ألم يأتكم أيها الجنّ والإنس رسل منكم ؟ فأما رسل الإنس ، فرسل من الله إليهم وأما رسل الجنّ ، فرسل رسل الله من بني آدم ، وهم الذين إذ سمعوا القرآن ولّوا إلى قومهم منذرين .
وأما الذين قالوا بقول الضحاك ، فإنهم قالوا : إن الله تعالى ذكره أخبر أن من الجنّ رسلاً أرسلوا إليهم ، كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا : ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجنّ بمعنى أنهم رسلا الإنس ، جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجنّ . قالوا : وفي فساد هذا المعنى ما يدلّ على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله ، لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا شَهِدْنا على أنْفُسِنا وَغَرّتْهُمُ الحَياةُ الدّنْيا وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ أنّهُمْ كانُوا كافِرِينَ .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول مشركي الجنّ والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أنهم يقولون شَهِدْنا على أنْفُسِنا بأن رسلك قد أتتنا بآياتك ، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا ، فكذّبناها وجحدنا رسالتها ، ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها . قال الله خبرا مبتدأً : وغرّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وأولياءهم من الجنّ ، الحَياةُ الدّنيا يعني : زنية الحياة الدنيا وطلب الرياسة فيها والمنافسة عليها ، أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله ، فاستكبروا وكانوا قوما عالين . فاكتفى بذكر الحياة الدنيا من ذكر المعاني التي غرّتهم وخدعتهم فيها ، إذ كان في ذكرها متكفى عن ذكر غيرها لدلالة الكلام على ما ترك ذكره ، يقول الله تعالى : وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ يعني هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله ، لتتمّ حجة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليم عذابه .