1- سورة " البينة " ، تسمى –أيضا- سورة " لم يكن . . " وسورة " المنفكين " وسورة " القيمة " وسورة " البرية " ، وعدد آياتها ثماني آيات عند الجمهور ، وعدها قراء البصرة تسع آيات .
2- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، وقد لخص الإمام الآلوسي هذا الخلاف فقال : قال في البحر : هي مكية . . وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية . . وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد عن أبي خيثمة البدري قال : لما نزلت هذه السورة ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها " أُبَيّاً " . فقال صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بن كعب –رضي الله عنه- : " إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة " ، فقال أُبَيّ : أو قد ذكرت ثَمَّ يا رسول الله ؟ قال : " نعم " فبكى أُبَيّ .
وقد رجع الإمام الآلوسي كونها مدنية ، فقال : وهذا هو الأصح( {[1]} ) .
وهذا الذي رجحه الإمام الآلوسي هو الذي نميل إليه ، لأن حديثها عن أهل الكتاب ، وعن تفرقهم في شأن دينهم ، يرجح أنها مدنية ، كما أن الإمام السيوطي قد ذكرها ضمن السور المدنية ، وجعل نزولها بعد سورة " الطلاق " وقبل سورة " الحشر " ( {[2]} ) .
" مِنْ " فى قوله - تعالى - { مِنْ أَهْلِ الكتاب } للبيان ، وقوله - سبحانه - { مُنفَكِّينَ } : للعلماء فى معنى هذا اللفظ أقوال متعددة ، منها : أنه اسم فاعل من انفك بمعنى انفصل ، يقال : فككت الشيء فانفك إذا افترق ما كان ملتحما منه .
والبينة : الحجة الظاهرة التى يتميز بها الحق من الباطل ، وأصلها من البيان بمعنى الظهور والوضوح ، لأن بها تتضح الأمور ، أو من البينونة بمعنى الانفصال ، لأن بها ينفصل الحق عن الباطل بعد التباسهما .
والمراد بها هنا : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقوله - تعالى - بعد ذلك : { رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } ، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان فى ذاته برهانا على صحة ما ادعاه من النبوة ، لتحليه بكمال العقل وبمكارم الأخلاق ، ولإِتيانه بالمعجزات التى تؤيد أنه صادق فيما يبلغه عن ربه .
والمعنى : لم يكن الذين كفورا من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ولم يكن - أيضاً - الذين كذبوا الحق من المشركين ، ولم يكن الجميع بمفارقين وبمنفصلين عن كفرهم وشركهم ، { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } التى هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما أتتهم هذه البينة ، منهم من آمن ومنهم من استمر على كفره وشركه وضلاله ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " كان الكفار من الفريقين ، أهل الكتاب ، وعبدة الأصنام ، يقولون قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبى المكتوب فى التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله - تعالى - ما كانوا يقولونه ، ثم قال : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ، يعنى أنهم كانوا يَعِدُون باجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق ، إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ، ولا أقرهم على الكفر ، إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظيره فى الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك عما أنا فيه حتى يرزقني الله - تعالى - الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول له واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك فى الفسق إلا بعد اليسار ، يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما .
وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه به . كالعظم إذا انفك من مفصله .
والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة .
ومنهم من يرى : أن { مُنفَكِّينَ } بمعنى متروكين ، لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك ، حتى تأتيهم البينة ، على معنى قوله - تعالى - : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } أو المعنى : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله - تعالى - وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله - تعالى - إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه - تعالى - قال : ما كانوا ليتركوا سدى .
وهناك أقوال أخرى فى معنى الآية رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها .
وقد قدم الله - تعالى - ذكر أهل الكتاب فى البيان ، لأن كفرهم أشنع وأقبح . إذ كانوا يقرأون الكتب ، ويعرفون أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم ، فكانت قدرتهم على معرفة صدقه أكبر وأتم . وفي التعبير عنهم بأهل الكتاب دون اليهود والنصارى ، تسجيل للغفلة وسوء النية عليهم . حيث علموا الكتاب ، وعرفوا عن طريقه أن هناك رسولا كريما قد أرسله الله - تعالى - لهدايتهم ، ومع ذلك كفروا به ، كما قال - تعالى - : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين }
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية . وقد وردت بعض الروايات بمكيتها . ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية ، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري ، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده . وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة . فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها . وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ، وبعضهم لم يؤمنوا . كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في مكة وآمنوا كما هو معروف . وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية .
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا .
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة . .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه ، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) .
والحقيقة الثالثة : أن الدين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة ) .
والحقيقة الرابعة : أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية . ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بينا :
ن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه . .
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة . وفي التصور الإيماني كذلك . نفصلها فيما يلي :
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة ) .
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة . وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها ، أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء .
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.