ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية التى بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } ؟
قال الإمام ابن جرير : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - عما هو قائل يوم القيامة ، لهؤلاء العادلين به من مشركى الإنس والجن ، يخبر أنه - تعالى - يقوله لهم : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } يقول : يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع حججى ، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدى وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى حدودى ، { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } يقول : يحذرونكم لقاء عذابى فى يومكم هذا وعقابى على معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى ، وهذا من الله - تعالى - تقريع لهم وتوبيخ على ما سلف منهم فى الدنيا من الفسوق والمعاصى ومعناه ، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله ، فلم تقبلوا ولم تتذكروا " .
وقوله { رُسُلٌ مِّنْكُمْ } استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس ، وإنما قيل : رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان فى الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما ، كقوله : " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، وإنما يخرجان من أحدهما وهو الماء الملح دون العذب .
قال أبو السعود : والمعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم : لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصة ، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما ذاتا ، واتحادهما تكليفا وخطابا .
كأنهما من جنس واحد ، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر ، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأنذروا بما سمعوه . أقوامهم ، إذ حكى القرآن عنهم أنهم { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } وأنهم قالوا لهم : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وقال صاحب المنار ، وجملة القول فى الخلاف أنه ليس فى المسألة نص قطعى ، والظواهر التى استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس ، لأن الكلام معهم ، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال إن الرسل من الفريقين . والجن عالم غيبى لا نعرف عنه ألا ما ورد به النص . وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله - تعالى - " .
ثم يحكى القرآن أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال : { قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا } أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا ، ولم يقصروا فى تبليغنا وإرشادنا .
وقوله - سبحانه - { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، وباعوا آخرتهم بدنياهم . { وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } أى : شهدوا على أنفسهم عندما وقفوا بين يدى الله للحساب فى الآخرة أنهم كانوا كافرين فى الدنيا بما جاءتهم به الرسل .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما لهم مقرين فى هذه الآية - على أنفسهم بالكفر - جاحدين فى قوله { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قلت : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون وأخرى يجحدون ، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم ، فإن على أفواههم . فإن قلت : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ قلت :
الأولى : حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون .
والثانية : ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة وكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، والاستسلام لربهم ، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم " .
هذا ، وإنك لتقرأ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التى تصور مشهداً من مشاهد يوم القيامة فيخيل إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم ، والضالين والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هََذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجنّ ، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذٍ : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يقول : يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي ، وتصديق أنبيائي ، والعمل بأمري والانتهاء إلى حدودي . وَيُنْذِرُونَكُم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يقول : يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياي ، فتنتهوا عن معاصيّ . وهذا من الله جلّ ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ، ومعناه : قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطإ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين ، فلم تقبلوا ذلك ولم تتذكروا ولم تعتبروا .
واختلف أهل التأويل في الجنّ ، هل أرسل منهم إليهم أم لا ؟ فقال بعضهم : قد أرسل إليه رسل كما أرسل إلى الإنس منهم رسل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سئل الضحاك عن الجنّ : هل كان فيهم نبيّ قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع إلى قول الله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني بذلك : رسلاً من الإنس ورسلاً من الجنّ ؟ فقالوا : بلى .
وقال آخرون : لم يرسل منهم إليهم رسول ، ولم يكن له من الجنّ قطّ رسول مرسل ، وإنما الرسل من الإنس خاصة . فأما من الجنّ فالنّذْر . قالوا : وإنما قال الله : ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ والرسل من أحد الفريقين ، كما قال : مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم قال : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح دون العذب منهما وإنما معنى ذلك : يخرج من بعضهما أو من أحدهما . قال : وذلك كقول القائل لجماعة أدؤر إن في هذه الدور لشرّا ، وإن كان الشرّ في واحدة منهنّ ، فيخرج الخبر عن جميعهنّ والمراد به الخبر عن بعضهنّ ، وكما يقال : أكلت خبزا ولبنا : إذا اختلطا ولو قيل : أكلت لبنا ، كان الكلام خطأ ، لأن اللبن يشرب ولا يؤكل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ قال : جمعهم كما جمع قوله : وَمِنْ كُلَ تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ولا يخرج من الأنهار حلية . قال ابن جريج : قال ابن عباس : هم الجن لَقُوا قومهم ، وهم رسل إلى قومهم .
فعلى قول ابن عباس هذا ، أن من الجنّ رسلاً للإنس إلى قومهم .
فتأويل الاَية على هذا التأويل الذي تأوّله ابن عباس : ألم يأتكم أيها الجنّ والإنس رسل منكم ؟ فأما رسل الإنس ، فرسل من الله إليهم وأما رسل الجنّ ، فرسل رسل الله من بني آدم ، وهم الذين إذ سمعوا القرآن ولّوا إلى قومهم منذرين .
وأما الذين قالوا بقول الضحاك ، فإنهم قالوا : إن الله تعالى ذكره أخبر أن من الجنّ رسلاً أرسلوا إليهم ، كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا : ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجنّ بمعنى أنهم رسلا الإنس ، جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجنّ . قالوا : وفي فساد هذا المعنى ما يدلّ على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله ، لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا شَهِدْنا على أنْفُسِنا وَغَرّتْهُمُ الحَياةُ الدّنْيا وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ أنّهُمْ كانُوا كافِرِينَ .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول مشركي الجنّ والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أنهم يقولون شَهِدْنا على أنْفُسِنا بأن رسلك قد أتتنا بآياتك ، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا ، فكذّبناها وجحدنا رسالتها ، ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها . قال الله خبرا مبتدأً : وغرّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وأولياءهم من الجنّ ، الحَياةُ الدّنيا يعني : زنية الحياة الدنيا وطلب الرياسة فيها والمنافسة عليها ، أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله ، فاستكبروا وكانوا قوما عالين . فاكتفى بذكر الحياة الدنيا من ذكر المعاني التي غرّتهم وخدعتهم فيها ، إذ كان في ذكرها متكفى عن ذكر غيرها لدلالة الكلام على ما ترك ذكره ، يقول الله تعالى : وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ يعني هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله ، لتتمّ حجة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليم عذابه .
قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس } داخل في القول يوم الحشر ، والضمير في { منكم } قال ابن جريج وغيره عمم بظاهرة الطائفتين والمراد الواحدة تجوزاً ، وهذا موجود في كلام العرب ، ومنه قوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[5099]} وذلك إنما يخرج من الأجاج ، وقال الضحاك الضمير عائد على الطائفتين وفي الجن رسل منهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال ابن عباس الضمير عائد على الطائفتين ولكن رسل الجن هم رسل الإنس ، فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله ، وهم النذر ، و { يقصون } من القصص ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «ألم تكن تأتيكم » بالتاء على تأنيث لفظ «الرسل » وقولهم : { شهدنا } إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير ، وقوله { وغرتهم الحياة الدنيا } التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل ، ويحتمل { غرتهم } أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه وقوله { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } تظهر بينه وبين ما في القرآن من الآيات التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك مناقضة ، والجمع بينهما هو إما بأنها طوائف ، وإما طائفة واحدة في مواطن شتى ، وإما أن يريد بقوله ها هنا : { وشهدوا على أنفسهم } ، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بعد إنكارهم بالألسنة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجنّ، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذٍ:"يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي" يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي، وتصديق أنبيائي، والعمل بأمري والانتهاء إلى حدودي.
"وَيُنْذِرُونَكُم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا "يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياي، فتنتهوا عن معاصيّ. وهذا من الله جلّ ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي، ومعناه: قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطإ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيد الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين، فلم تقبلوا ذلك ولم تتذكروا ولم تعتبروا...
"قالُوا شَهِدْنا على أنْفُسِنا وَغَرّتْهُمُ الحَياةُ الدّنْيا وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ أنّهُمْ كانُوا كافِرِينَ" وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول مشركي الجنّ والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم "أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا" أنهم يقولون شَهِدْنا على أنْفُسِنا بأن رسلك قد أتتنا بآياتك، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا، فكذّبناها وجحدنا رسالتها، ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها. قال الله خبرا مبتدأً: وغرّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وأولياءهم من الجنّ، "الحَياةُ الدّنيا" يعني: زنية الحياة الدنيا وطلب الرياسة فيها والمنافسة عليها، أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله، فاستكبروا وكانوا قوما عالين. فاكتفى بذكر الحياة الدنيا من ذكر المعاني التي غرّتهم وخدعتهم فيها، إذ كان في ذكرها متكفى عن ذكر غيرها لدلالة الكلام على ما ترك ذكره.
يقول الله تعالى: "وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ" يعني هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله، لتتمّ حجة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليم عذابه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقولهم: {شهدنا} إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير، وقوله {وغرتهم الحياة الدنيا} التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل {غرتهم} أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضت هذه المحاورة وما أنتجته من بغيض الموالاة والمجاورة وكان حاصلها أنها موالاة من ضرت موالاته، أتبعها سبحانه بمحاورة أخرى حاصلها معاداة من ضرت معاداته، فقال مبدلاً من الأولى إتماماً للتقريع والتوبيخ والتشنيع: {يا معشر الجن} قدمهم لأن السياق لبيان غلبتهم {والإنس} وبكتهم بقوله محذراً للسامعين الآن ومستعطفاً لهم إلى التوبة: {ألم يأتكم رسل} ولما صار القبيلان بتوجيه الخطاب نحوهم دفعة كالشيء الواحد قال: {منكم} وإن كان الرسل من الإنس خاصة...
{وشهدوا} أي في هذا الموطن من مواطن القيامة الطوال {على أنفسهم} أيضاً بما هو أصرح في الضرر عليهم من هذا، وهو {أنهم كانوا} جبلة وطبعاً {كافرين} أي غريقين في الكفر، ويجوز أن يكون الغرور بأنهم ظنوا أحوال الآخرة تمشي على ما كانوا يألفونه في الدنيا من أن الاعتراف بالذنب والتكلم بالصدق قد ينفع المذنب ويكف من سورة المغضب حتى يترك العقاب ويصفح عن الجريمة، فلذلك شهدوا بإتيان الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، فما زادهم ذلك إلا وبالاً وحزناً ونكالاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} هذا بيان لما يخطر في بال من يقرأ ما قبله أو يسمعه فإنه يقول في نفسه يا ليت شعري كيف يكون حال هؤلاء الظالمين الذين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا بما كانوا يكسبون من الأوزار إذ قدموا على الله يوم القيامة؟ فجاء الجواب في هذه الآية بأنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لإقامة الحجة عليهم بها فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها وقد حققنا معنى المعشر في تفسير الآية 127 (ج 8 تفسير) فما العهد بها ببعيد.
والاستفهام هنا للتقرير التوبيخي وقوله: {رسل منكم} ظاهره أن كلا من الفريقين قد أرسل الله منهم رسلا إلى أقوامهم والجمهور على أن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات كحصر الرسالة في الرجال وجعلها في ذرية نوح وإبراهيم ولذلك صرفوا النظم عن ظاهره وقالوا إن المراد بقوله منكم من جملتكم لا من كل منكم، وهو يصدق برسل الإنس الذين تثبت رسالتهم إلى الإنس والجن...
وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعي والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس لأن الكلام معهم وليست أقوى من ظاهر الآيات التي استدل بها على كون الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص وقد دل القرآن –وكذا الحديث الصحيح- على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إليهم وحكى تعالى عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا: {إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى} (الأحقاف 30) فظاهره أنه كان مرسلا إليهم. فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله تعالى.
ثم إنه تعالى وصف الرسل الذين أرسلهم إلى الفريقين منهم بقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} أي يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليكم المبينة لأصول الإيمان، ومكارم الأخلاق وحسنات الأعمال التي يترتب عليها صلاح الأحوال وسلامة المآل، وينذرونكم لقاء يومكم هذا بإعلامكم ما يقع فيه من الحساب والعقاب على من كفر عن جحود أو ارتياب.
{قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} هذا ما حكاه تعالى من جوابهم عن السؤال عندما يؤذن لهم في بعض مواقف القيامة بالكلام وثم مواقف أخرى لا ينطقون فيها ولا يؤذن لهم فيعتذرون ومواقف يكذبون فيها على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأعمالهم وتقدم شيء من ذلك. وجوابهم هذا وجيز يدل على أنهم يعترفون بكفرهم ويقرون بإتيان الرسل وبلوغهم دعوتهم منهم أو ممن نقلها عنهم. وأنهم كذبوا واتبعوا أهواءهم. ولذلك قال:
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة والسلطان على الناس، ورأوا من دعوة الرسل في عصرهم أن اتباعهم إياهم يجعل الرئيس منهم مرؤوسا لضعفاء المؤمنين في جميع الحقوق والمعاملات، وقد يكرمون عليه بما يفضلونه به من التقوى وصالح الأعمال، وكذلك حال من على مقربة من الرؤساء والزعماء بشجاعتهم أو ثروتهم أو عصبيتهم. فهؤلاء كانوا يكفرون بالرسل كفر كبر وعناد يقلدهم فيه كثير من أتباعهم تقليدا فيغتر كل منهم بما يغتز به من التعاون مع الآخر...
{وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} أي وشهدوا في ذلك الموقف من مواقف ذلك اليوم إذ تقوم الحجة عليهم بأنهم كانوا في الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل، إذ لا يجدون فيه مجالا للكذب والمكابرة ولا للتأويل. وليس الكفر بما جاء به الرسل محصورا في تكذيبهم بالقول، بل منه عدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنة الله تعالى في الطباع والأخلاق وترتب الأعمال عليها، فالكفر نوعان: عدم الإيمان بما جاء به الرسول، وعدم الإسلام له بالإذعان والعمل والذنب العارض لا ينافي الإسلام كما فصل مرارا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود، إبطالاً لمعذرتهم، وإعلاناً بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعاً.
والهمزة في {ألم يأتيكم} للاستفهام التّقريري، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي، يؤتى بتقريره داخلاً على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به، كما يقال للجاني: ألَسْت الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه، فيؤتى بالاستفهام داخلاً على نفي الشّيء المقرّر عليه، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم. ومنه قوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم} [الأعراف: 172]، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله، ونبذ العمل الصّالح ظهرياً، والإعراض عن الإيمان، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغاً، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب.
والرّسل: ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم: من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى: {إذْ جاءها المرسلون} [يس: 13] وهم رسل الحواريين بعد عيسى.
فوَصْف الرّسل بقوله: {منكم} لزيادة إقامة الحجّة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون (مِن) اتِّصالية مثل الّتي في قولهم: لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي، وليست للتّبعيض، فليست مثل الّتي في قوله: {هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم} [الجمعة: 2]...
وتكون (من) تبعيضية، ويكون المراد بضمير: {منكم} خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله... فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاماً بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ: {قُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآناً عجبا} [الجن: 1] الآية، وقال في سورة الأحقاف (30، 31): {قالوا يا قَوْمنا إنَّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم} ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله: {إنَّه يَراكم هو وقبيلُه من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] فضعف قول من قال بوُجود رسل من الجنّ إلى جنسهم، ونُسب إلى الضحاك، ولذلك فقوله: {ألم يأتيكم} مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ، ولم يرد عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلاً من الجنّ إلى جنسهم، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يَدْعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلاّ إلى ما يُحرّك النّظر. فلمّا خلق الله للجنّ علماً بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجَّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم.
ومن حسن عبارات أيمّتنا أنَّهم يقولون: الإيمان واجب على مَن بلَغَتْه الدّعوة، دون أن يقولوا: على مَن وُجّهت إليه الدّعوة. وطرق بلوغ الدّعوة عديدة، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّداً صلى الله عليه وسلم ولا غيرَه من الرّسل، بُعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك، ولعدم المناسبة بين الجنسين، وتعذّر تخالطهما، وعن الكلبي أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ، وقاله ابن حزم، واختاره أبو عُمر ابن عبد البرّ، وحكَى الاتِّفاق عليه: فيكون من خصائص النّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لقدره. والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنَّه خوض في أحوال عالَم لا يدخل تحت مُدْرَكاتنا، فإنّ الله أنبأنا بأنّ العوالم كلّها خاضعة لسلطانه. حقيق عليها طاعته، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف.
والمقصود من الآية الّتي نتكلّم عليها إعلامُ المشركين بأنَّهم مأمورون بالتّوحيد والإسلام وأنّ أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام. بلْهَ أتْباعهم ودهمائهم. فذكر الجنّ مع الإنس في قوله: {يا معشر الجن والإنس} يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحْسيرهم على ما فرط منهم في الدّنيا من عبادة الجنّ أو الالتجاءِ إليهم، على حدّ قوله تعالى: {ويوم يحشرهم وما يَعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء} [الفرقان: 17] وقوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنتَ قلتَ للنّاس اتَّخذوني وأمِّي إلهين من دون الله} [المائدة: 116].
والقَصّ كالقَصَص: الإخبار، ومنه القصّة للخبر، والمعنى: يخبرونكم الأخْبار الدالّة على وحدانيّة الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فسمّى ذلك قَصَّاً؛ لأنّ أكثره أخبار عن صفات الله تعالى وعن الرّسل وأممهم وما حلّ بهم وعن الجزاء بالنّعيم أو العذاب. فالمراد من الآيات آيات القرآن والأقوالُ الّتي تتلى فيفهمها الجنّ بإلهام، كما تقدّم آنفاً، ويفهمها الإنس ممّن يعرف العربيّة مباشرة ومن لا يعرف العربيّة بالتّرجمة.
والإنذار: الإخبار بما يُخِيف ويُكره، وهو ضدّ البشارة، وتقدّم عند قوله تعالى: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً} في سورة البقرة (119)، وهو يتعدّى إلى مفعول بنفسه وهو الملقى إليه الخبر، ويتعدّى إلى الشّيء المخبر عنه: بالباء، وبنفسه، يقال: أنذرته بكذا وأنذرته كَذا، قال تعالى: {فأنذرتكم ناراً تلظّى} [الليل: 14]، {فقُل أنذرتكم صاعقة} [فصلت: 13]، {وتُنْذِرَ يومَ الجمع} [الشورى: 7] ولمّا كان اللّقاء يوم الحشر يتضمّن خيراً لأهل الخير وشرّا لأهل الشرّ، وكان هؤلاء المخاطبون قد تمحّضوا للشرّ، جُعل إخبار الرّسل إيَّاهم بلقاء ذلك اليوم إنذاراً لأنَّه الطَّرف الّذي تحقّق فيهم من جملة إخبار الرّسل إيَّاهم ما في ذلك اليوم وشرّه. ووصف اليوم باسم الإشارة في قوله: {يومكم هذا} لتهويل أمر ذلك بما يشاهد فيه، بحيث لا تحيط العبارة بوصفه، فيعدل عنها إلى الإشارة كقوله: {هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون} [الطور: 14].
ومعنى قولهم: {شهدنا على أنفسنا} الإقرارُ بما تضمّنه الاستفهام من إتيان الرّسل إليهم، وذلك دليل على أن دخول حرف النّفي في جملة الاستفهام ليس المقصود منه إلاّ قطع المعذرة وأنّه أمر لا يسع المسؤولَ نفيُه، فلذلك أجملوا الجواب: {قالوا شهدنا على أنفسنا}، أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا.
واستعملت الشّهادة في معنى الإقرار لأنّ أصل الشّهادة الإخبار عن أمر تحقّقه المخبر وبيَّنه، ومنه: {شهد الله أنَّه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسط} [آل عمران: 18]. وشهد عليه، أخبر عنه خبرَ المتثبت المتحقّق، فلذلك قالوا: {شهدنا على أنفسنا} أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا. ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله: {إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين} [الأنعام: 23] لاختلاف المخبر عنه في الآيتين. وفُصِلت جملة: {قالوا} لأنَّها جارية في طريقة المحاورة.
وجملة {وغرتهم الحياة الدنيا} معطوفة على جملة: {قالوا شهدنا} باعتبار كون الأولى خبراً عن تبيّن الحقيقة لهم، وعلمهم حينئذ أنَّهم عَصوا الرّسل ومَن أرسلهم. وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك. فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنَّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلاّ لأنَّهم غرّتهم الحياة الدّنيا، ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه.
والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم: من اللّهو، والتّفاخر، والكبر، والعناد. والاستخفاف بالحقائق، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل. والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله. فإنّ حالهم سواء.
وجملة: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} معطوفة على جملة: {وغرتهم الحياة الدنيا} وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم، وتخطئة رأيهم في الدّنيا.
وسوء نظرهم في الآيات، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب. وقد رُتّب هذا الخبرُ على الخبر الّذي قبله، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله، فأمّا الإنس فلأنَّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ، وأمّا الجنّ فلأنَّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى، فكِلا الفريقين من هؤلاء كافر، وهذا مثل ما أخبرَ الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله: {وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم} [الملك: 10، 11]. فانظر كيف فرّع على قولهم أنَّهم اعترفوا بذنبهم، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم، والتسميع بهم، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تدل بوضوح على أنّ العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي الحبّ اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط، ذلك الحبّ الذي كبل الإِنسان بقيود الأسر ودفعه إِلى ارتكاب كل ألوان الظلم والعدوان والإِجحاف والأنانية والطغيان.