ثم شرع فى تنفيذ ما راموه منه من عون فقال : { آتُونِي زُبَرَ الحديد . . } .
والزبرَ - كالغُرَف - جمع زُبره - كغرفة - وهى القطعة الكبيرة من الحديد وأصل الزبر . الاجتماع ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله . ويقال : زبرت الكتاب أى كتبته وجمعت حروفه .
أى : أحضروا لى الكثير من قطع الحديد الكبيرة ، فأحضروا له ما أراد { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } أى بين جانبى الجبلين . وسمى كل واحد من الجانبين صدفا . لكونه مصادفا ومقابلا ومحاذيا للآخر ، مأخوذ من قولهم صادفت الرجل : أى : قابلته ولاقيته ، ولذا لا يقال للمفرد صدف حتى يصادفه الآخر ، فهو من الأسماء المتضايفة كالشفع والزوج .
وقوله : { قالوا انفخوا } أى النار على هذه القطع الكبيرة من الحديد الموضوع بين الصدفين .
وقوله : { حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } أى : حتى إذا صارت قطع الحديد الكبيرة كالنار فى احمرارها وشدة توهجها { قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أى : نحاسا أو رصاصا مذابا ، وسمى بذلك لأنه إذا أذيب صار يقطر كما يقطر الماء .
أى : قال لهم أحضروا لى قطع الحديد الكبيرة ، فلما أحضروها له ، أخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا ساوى بين جانبى الجبلين بقطع الحديد ، قال لهم : أوقدوا النار وانفخوا فيها بالكيران وما يشبهها لتسخين هذه القطع من الحديد وتليينها ، ففعلوا ما أمرهم به ، حتى صارت تلك القطع تشبه النار فى حرارتها وهيئتها ، قال أحضروا لى نحاسا مذابا ، لكى أفرغه على تلك القطع من الحديد لتزداد صلابة ومتانة وقوة .
وبذلك يكون ذو القرنين قد لبى دعوة أولئك القوم فى بناء السد . وبناه لهم بطريقة محكمة سليمة ، اهتدى بها العقلاء فى تقوية الحديد والمبانى فى العصر الحديث .
وكان الداعى له لهذا العمل الضخم ، الحيلولة بين هؤلاء القوم ، وبين يأجوج ومأجوج الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون .
ولقد أخبر القرآن الكريم بأن ذا القرنين بهذا العمل جعل يأجوج ومأجوج يقفون عاجزين أمام هذا السد الضخم المحكم فقال : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّىَ إِذَا سَاوَىَ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتّىَ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيَ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوَاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } .
يقول عزّ ذكره : قال ذو القرنين للذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدّا آتونِي أي جيئوني بِزُبَر الحديد ، وهي جمع زُبْرة ، والزّبْرة : القطعة من الحديد . كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : زُبَرَ الحَدِيدِ يقول : قطع الحديد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ قال : قطع الحديد .
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله : زُبَرَ الحَدِيدِ قال : قطع الحديد .
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، قوله : آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ قال : قطع الحديد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة آتُونِي زُبَرُ الحَدِيدِ : أي فَلَق الحديث .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : آتُونِي زُبَرُ الحَدِيدِ قال : قطع الحديد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ قال : قطع الحديد .
وقوله : حتى إذَا ساوَى بينَ الصّدفَيْنِ يقول عزّ ذكره : فآتُوهُ زُبَر الحديد ، فجعلها بين الصدفين حتى إذا ساوى بين الجبلين بما جعل بينهما من زُبر الحديد ، ويقال : سوّى . والصدفان : ما بين ناحيتي الجبلين ورؤوسهما ومنه قوله الراجز :
قدْ أخَذَتْ ما بينَ عَرْضِ الصّدُفَيْنِ *** ناحِيَتَيْها وأعالي الرّكْنَيْنِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله بينَ الصّدَفَيْنِ يقول : بين الجبلين .
حدثني محمد ، بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : حتى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ قال : هو سدّ كان بين صَدَفين ، والصدفان : الجبلان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الصّدَفَيْنِ رؤوس الجبلين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بينَ الصّدَفَيْنِ يعني الجبلين ، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حتى إذَا ساوَى بينَ الصّدَفَيْنِ وهما الجبلان .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه قرأها : بينَ الصّدَفَيْنِ منصوبة الصاد والدال ، وقال : بين الجبلين ، وللعرب في الصدفين : لغات ثلاث ، وقد قرأ بكلّ واحدة منها جماعة من القراء : الفتح في الصاد والدال ، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة والضمّ فيهما ، وهي قراءة أهل البصرة والضم في الصاد وتسكين الدال ، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة . والفتح في الصاد والدال أشهر هذه اللغات ، والقراءة بها أعجب إليّ ، وإن كنت مستجيزا القراءة بجميعها ، لاتفاق معانيها . وإنما اخترت الفتح فيهما لما ذكرت من العلة .
وقوله : قالَ انْفُخُوا يقول عزّ ذكره ، قال للفعلة : انفخوا النار على هذه الزّبر من الحديد .
وقوله : حتى إذَا جَعَلَهُ نارا وفي الكلام متروك ، وهو فنفخوا ، حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قَطْرا فاختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : قالَ آتُونِي بمدّ الألف من آتُونِي بمعنى : أعطوني قطرا أفرغ عليه . وقرأه بعض قرّاء الكوفة ، قال : «ائْتُونِي » بوصل الألف ، بمعنى : جيئوني قِطْرا أفرغ عليه ، كما عليه : أخذت الخطام ، وأخذت بالخطام ، وجئتك زيدا ، وجئتك بزبر . وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرىء كذلك إلى معنى أعطوني ، فيكون كأنه قارئه أراد مدّ الألف من آتوني ، فترك الهمزة الأولى من آتوني ، وإذا سقطت الأولى همز الثانية . )
وقوله : أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا يقول : أصبّ عليه قطرا ، والقِطْر : النّحاس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا قال : القِطر : النحاس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا : يعني النحاس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا أي النحاس ليلزمه به .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا قال : نحاسا .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : القِطر : الحديد المذاب ، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :
حُساما كَلَوْنِ المِلْحِ صَافٍ حَديدُه *** جُزَارا مِنَ اقْطارِ الحَديدِ المُنَعّتِ
{ آتوني زُبر الحديد } قطعه والزبرة القطعة الكبيرة ، وهو لا ينافي رد الخراج والاقتصار على المعونة لأن الإيتاء بمعنى المناولة ، ويدل عليه قراءة أبي بكر " ردماً ائتوني " بكسر التنوين موصولة الهمزة على معنى جيئوني بزبر الحديد ، والباء محذوفة حذفها في أمرتك الخير ولأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل . { حتى إذا ساوى بين الصدفين } بين جانبي الجبلين بتنضيدها . وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريان بضمتين ، أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال ، وقرئ بفتح الصاد وضم الدال وكلها لغات من الصدف وهو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر ومنه التصادف للتقابل . { قال انفُخوا } أي قال للعملة انفخوا في الأكوار والحديد . { حتى إذا جعله } جعل المنفوخ فيه . { نارا } كالنار بالإحماء . { قال آتوني اُفرغ عليه قطراً } أي آتوني قطرا أي نحاسا مذاباً أفرغ عليه قطرا ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه . وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى ، إذ لو كان قطرا مفعول أفرغ حذرا من الإلباس . وقرأ حمزة وأبو بكر قال " أتوني " موصولة الألف .
قوله { ءَاتُوني زُبَرَ الحَدِيدِ } هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد .
فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه وهو المناولة وليس تكليفاً للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه لأن ذلك ينافي قوله { ما مكَّني فيه ربي خير فأعينوني بقوة } أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقاً على جعل السدّ . وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم لمرور سيول الماء في شُعَب الجبل حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها ، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد .
والزُبَر : جمع زُبْرة ، وهي القطعة الكبيرة من الحديد .
والحديد : معدن من معادن الأرض يكون قِطعاً كالحَصَى ودون ذلك فيها صلابة . وهو يصنف ابتداء إلى صنفين : ليّن ، ويقال له الحديد الأنثى ، وصُلب ويقال له الذكر . ثم يُصنف إلى ثمانية عشر صنفاً ، وألوانه متقاربة وهي السنجابي ، منها ما هو إلى الحمرة ، ومنها ما هو إلى البياض ، وهو إذا صهر بنار قوية في أتون مغلق التأمت أجزاؤه وتجمعت في وسط النار كالإسفنجة واشتدت صلابته لأنه بالصهر يدفع ما فيه من الأجزاء الترابية وهي المسماة بالصدأ والخبث ، فتعلو تلك الأجزاء على سطحه وهي الزبَد . وخبَث الحديد الوارد في الحديث : " إنّ المدينة تنفي خبَثها كما ينفي الكِيرُ خبث الحديد " . ولذلك فبمقدار ما يطفو من تلك الأجزاء الغريبة الخبيثة يخلص الجزء الحديدي ويصفو ويصير زُبَراً . ومن تلك الزُبر تُصنع الأشياء الحديدية من سيوف وزجاج ودروع ولأمات ، ولا وسيلة لصنعه إلاّ الصهر أيضاً بالنار بحيث تصير الزبرة كالجَمر ، فحينئذ تُشَكّل بالشكل المقصود بواسطة المطارق الحديدية .
والعصرُ الذي اهتدى فيه البشر لصناعة الحديد يسمى في التاريخ العصر الحديدي .
وقوله : { حتَّى إذا سَاوَى بَينَ الصَّدَفَينِ } أشعرت { حَتَّى } بشيء مغيّاً قبلها ، وهو كلام محذوف تقديره : فآتوه زُبَر الحديد فنضدها وبناها حتى إذا جعل ما بين الصدفين مساوياً لعلو الصدفين . وهذا من إيجاز الحذف . والمساواة : جعل الأشياء متساوية ، أي متماثلة في مقدار أو وصف .
والصدفان بفتح الصاد وفتح الدال في قراءة الجمهور وهو الأشهر . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب بضم الصاد والدال ، وهو لغة . وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الصاد وسكون الدال .
والصدف : جانب الجبل ، وهما جانبا الجبلين وهما السدان . وقال ابن عطية والقزويني في « الكشف » : لا يقال إلاّ صدفان بالتثنية ، ولا يقال لأحدهما صَدف لأن أحدهما يصادف الآخر ، أي فالصدفان اسم لمجموع الجانبين مثل المِقَصّان لما يقطع به الثوب ونحوه . وعن أبي عيسى : الصدف كلّ بناء عظيم مرتفع .
والخطاب في قوله { انْفُخُوا } وقوله { ءَاتُونِي } خطاب للعملة . وحذف متعلّق { انْفُخُوا } لظهوره من كون العمل في صنع الحديد . والتقدير : انفخوا في الكِيرَان ، أي الكيران المصفوفة على طول ما بين الصدفين من زُبر الحديد .
وقرأ الجمهور : { قَالَ ءَاتُونّي } مثل الأول . وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم { ائتوني } على أنه أمر من الإتيان ، أي أمرهم أن يحضروا للعمل .