وبعد هذا البيان الجامع عن أحوال المهتدين بهديه أو الناكبين عن صراطه ، وما تخلل ذلك من المواعظ النافعة ، والتمثيلات الرائعة ، والبشارات الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً ، بعد كل ذلك بين - سبحانه - أنه لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فقال - تعالى- : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . } .
روى الواحدى في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وقوله - تعالى - : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } لما نزل قال المشركون : أرأيتم أي شيء يصنع بهذا ؟ ! فأنزل الله { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } .
وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله ! فأنزل الله هذه الآية { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى } . إلخ .
وقال السدى : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . } وقوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله هذه الآية . ويبدوا أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .
والاستحياء والحياد واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة ، وهو ترك ضرب الأمثال بها . والمعنى : إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً . ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات .
أي : ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم ؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق .
والمثل فى اللغة : الشبيه . وهو فى عرف القرآن : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين ؛ أو وصف غريب نحو قوله تعالى : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيرادة بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع .
و ( ما ) فى قوله { مَثَلاً مَّا } هي ما الإِبهامية ، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً ما ، أي كتاب كان .
والبعوضة واحدة البعوض وهى حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهى بدل أو بيان من قوله { مَثَلاً } .
وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها فى الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة . قال صاحب الكشاف : سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه ملا فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . . وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده . . وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه معنيان :
أحدهما : فما تجاوزهما وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة .
والثاني : فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال :
{ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } . أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت : زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت : أما زيد فذاهب .
والضمير فى قوله { أَنَّهُ } يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله : { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } . والحق : خلاف الباطن ، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .
ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها . ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر . والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكلهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك .
وعبر فى جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز . وقال : { أَنَّهُ الحق } معرفاً بأل ، ولم يقل : أنه حق للمبالغة في حقية المثل . ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال .
وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أي : إنه هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ .
ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال :
{ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .
كلمة { مَاذَآ } مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو : ماذا التواني ؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر } وقد يتوسعون فيها توسعاً أٌوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } ونحو { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أي : ما الذي أراده الله بهذا المثل .
والإِرادة فى أصل اللغة : نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهي المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع .
وقوله : { مَثَلاً } واقع في موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً ؟
والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس . والمعنى : فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار . ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } . فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم .
ووصف كلا من فريقي المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهتديين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة ، وإن قلوا في الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة .
وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت في أعضادهم .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } .
الفاسقون : جمع فاسق ، من الفسق ، وهو في أصل اللغة : الخروج . يقال : فسقت الرطبة من قشرها . أي : خرجت منه ، وشرعاً ، الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص فى العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق فى كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية .
وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا .
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهََذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقوله : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ الاَيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال . فأنزل الله إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ .
حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قُراد عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : إنّ اللّهَ لا يَسْتَحِيِي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت ، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن ، إذا امتلئوا من الدنيا رِيّا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا فلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ الآية .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم ، وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت وتموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريّا أخذهم الله فأهلكهم ، فذلك قوله : حَتّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ .
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : إن اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا أي إن الله لا يستحيي من الحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت ، قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .
وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها .
وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية وفي المعنى الذي نزلت فيه مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس . وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ضربها للمنافقين دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول ، أعني قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضُرب لهم من الأمثال في هذه السورة أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .
فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولاَلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى ، لما أخبر عنه أنه لا يستحي أن يضربه مثلاً ، إذْ كان بعضها تمثيلاً لاَلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب ، وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن قول الله جل ثناؤه : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرها وكبيرها ابتلاءً بذلك عباده واختبارا منه لهم ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لاَخرين كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : مَثَلاً مَا بَعُوضَةً يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويضلّ بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وحدثني المثنى ، قال حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
قال أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه . خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحقّ وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيّب من السماء على ما نَعَتهما به من نَعْتهما .
فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟ قيل : الدلالة على ذلك بينها جلّ ذكره في قوله : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الاَيتين المقدمتين ، اللتين مثّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بمُوقِدِ النار وبالصيب من السماء على ما وصف من ذلك قبل قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً قد أنكروا المثل وقالوا : ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ، فأوضح خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .
وأما تأويل قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً ، ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : وَتَخْشَى الناسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناسَ والله أحقّ أن تستحيه فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء .
وأما معنى قوله : أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكميت :
وذَلِكَ ضَرْبُ أخْماسٍ أُرِيدَت ْلأِسْدَاسٍ عَسَى أنْ لا تَكُونا
بمعنى وصف أخماس . والمثل : الشبه ، يقال : هذا مَثَلُ هذا ومِثْلُه ، كما يقال : شَبَهُه وشِبْهُه ، ومنه قول كعب بن زهير :
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً *** وَمَا مَوَاعِيدُها إلاّ الأباطِيلُ
فمعنى قوله إذا : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً : إن الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به وأما «ما » التي مع «مثل » فإنها بمعنى «الذي » ، لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها مثلاً .
فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأوّلت : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أن يَضْرِبَ مَثَلاً الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ، فأنّى أتاها النصب ؟ قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما أن «ما » لما كانت في محل نصب بقوله : يَضْرِب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت :
وكَفَى بِنا فَضْلاً على مَنْ غَيْرِنا حُبّ النّبِيّ مُحَمّدٍ إيّانا
فعرّبت غير بإعراب «مَنْ » ، فالعرب تفعل ذلك خاصة في «من » و«ما » تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا .
وأما الوجه الاَخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر «بين » و«إلى » ، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في «ما » الثانية دلالة عليهما ، كما قالت العرب : «مُطرنا ما زبالة فالثعلبية » ، و«له عشرون ما ناقة فجملاً » ، و«هي أحسن الناس ما قرنا فقدما » ، يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها ، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول «ما بين كذا إلى كذا » ، ينصبون الأول والثاني ليدلّ النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : ما بعوضة فما فوقها .
وقد زعم بعض أهل العربية أن «ما » التي مع المَثَل صلة في الكلام بمعنى التطوّل ، وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً فما فوقها . فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب«يضرب » ، وأن تكون «ما » الثانية التي في «فما فوقها » معطوفة على البعوضة لا على «ما » .
وأما تأويل قوله : فَمَا فَوْقَهَا : فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف ، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .
وقيل في تأويل قوله : فَمَا فَوْقَها في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشحّ ، فيقول السامع : نعم ، وفوق ذاك ، يعني فوق الذي وصف في الشحّ واللؤم . وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويل القرآن .
فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة . فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في «ما » إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ذكره : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله . وقوله : فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل . كما .
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ أن هذا المثل الحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده . وكما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ : أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحقّ من الله .
وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذا مَثَلاً
قال أبو جعفر : وقوله : وأما الّذِينَ كَفَرُوا يعني الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علموا أنه حقّ . وذلك صفة المنافقين ، وإياهم عنى الله جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلاً ، كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي .
حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضلّ بها الفاسقون . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وتأويل قوله : ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلاً ، ف«ذا » الذي مع «ما » في معنى «الذي » وأراد صلته ، وهذا إشارة إلى المثل .
القول في تأويل قوله تعالى : يضلّ به كَثِيرا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرا .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعزّ : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا يضلّ الله به كثيرا من خلقه ، والهاء في «به » من ذكر المثل . وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ ، ومعنى الكلام : أن الله يضلّ بالمثل الذي يضرّبه كثيرا من أهل النفاق والكفر . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا يعني المنافقين ، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا يعني المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالاً إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك إضلال الله إياهم به .
ويهدي به يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم ، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به ، وذلك هداية من الله لهم به .
وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضلّ به هذا ويهدي به هذا . ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ وفيما في سورة المدثر من قول الله : ( وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ما ينبىء عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ ، أعني قوله : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ : هم المنافقون .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ فسقوا فأضلهم الله على فسقهم .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : وَما يُضِل بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ : هم أهل النفاق .
قال أبو جعفر : وأصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء ، يقال منه : فسقت الرطبة ، إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة ، لخروجها عن جحرها . فكذلك المنافق والكافر سُميا فاسقين لخروجهما عن طاعة ربهما ، ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يعني به : خرج عن طاعته واتباع أمره . كما :
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي بما بعدوا عن أمري .
فمعنى قوله : وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ : وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق إلا الخارجين عن طاعته والتاركين اتباع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفاق .
{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة } لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل ، عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل ، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير كما يمثل العظيم بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم ، كما مثل في الإنجيل غل الصدور ، بالنخالة . والقلوب القاسية ، بالحصاة . ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير . وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشه ، وأعز من مخ البعوض . لا ما قالت الجهلة من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين ؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ؟ وجعلها أقل من الذباب والعنكبوت . وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل ؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره ؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : { إن الله لا يستحي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها . والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم ، وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا . واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي ، إذا اعتلت نساه وحشاه . وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث : " إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه " . " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " /ح/ فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، ونظيره قول من يصف إبلا : إذا ما استحين الماء يعرض نفسه *** كرعن بسبت في إناء من الورد وإنما عدل به عن الترك ، لما فيه من التمثيل والمبالغة ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة . وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم ، وأصله وقع شيء على آخر ، وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه . وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد ، كقولك أعطني كتابا ما ، أي : أي كتاب كان . أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع ، فإن القرآن كله هدى وبيان ، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه ، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه . وبعوضة عطف بيان لمثلا . أو مفعول ليضرب ، ومثلا حال تقدمت عليه لأنه نكرة . أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل . وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى هذا يحتمل { ما } وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، كما حذف في قوله : { تماما على الذي أحسن } وموصوفة بصفة كذلك ، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين . واستفهامية هي المبتدأ ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال ، قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل ، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك . ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران . والبعوض : فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع والعضب ، غلب على هذا النوع كالخموش .
{ فما فوقها } عطف على بعوضة ، أو ما إن جعل اسما ، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به رد ما استنكروه . والمعنى : أنه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه ، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا ، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلا للدنيا ، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة " فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة " .
{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه ، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر ، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذم بليغ للكافرين على قولهم ، والضمير في { أنه } للمثل أو لأن يضرب . و{ الحق } الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة ، من قولهم حق الأمر ، إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج .
{ وأما الذين كفروا فيقولون } كان من حقه : وأما الذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه .
{ ماذا أراد الله بهذا مثلا } يحتمل وجهين : أن تكون " ما " استفهامية و " ذا " بمعنى الذي وما بعده صلته ، والمجموع خبر ما . وأن تكون " ما " مع " ذا " اسما واحدا بمعنى : أي شيء ، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله ، والأحسن في جوابه الرفع على الأول ، والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال . والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل والثاني قبله ، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ، ولذلك اختلف في معنى إرادته ، فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره أمره بها . فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله ، والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه ، أو معنى يوجب هذا الترجيح ، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال . و{ مثلا } نصب على التمييز ، أو الحال كقوله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية } . { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جواب ماذا ، أي إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد ، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما ، وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان ، وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده - ضلال وفسوق ، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : { وقليل ما هم } ، { وقليل من عبادي الشكور } ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد ، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :
قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا *** . . .
إن الكرام كثير في البلاد وإن *** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
{ وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن حد الإيمان ، كقوله تعالى : { إن المنافقين هم الفاسقون } من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت . وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقا عن قصدها جوائرا *** . . .
والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وله درجات ثلاث :
الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها .
الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها .
الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها ، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولا بس الكفر . وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ، والكفر تكذيب الحق وجحوده . جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام ، وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال ، وأدى بهم إلى الضلال . وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به ، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به . وقرئ ( يضل ) بالبناء للمفعول و{ الفاسقون } بالرفع .