1- سورة " المسد " تسمى –أيضا- بسورة " تبت " ، وبسورة " أبي لهب " ، وبسورة " اللهب " ، وهي من أوائل السور التي نزلت بمكة ، فهي السورة السادسة في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة " الفاتحة " ، وقبل سورة " الكوثر " ، وهي خمس آيات .
2- وقد ذكروا في سبب نزول هذه السورة روايات منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى : " يا صباحاه " ، وهي كلمة ينادى بها للإنذار من عدو قادم ، فاجتمعت إليه قريش ، فقال : " أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مُصَبحكم أو مُمْسِيكم أكنتم تصدقوني " ؟ قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .
فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ تبا لك ، فأنزل الله –تعالى- هذه السورة .
وفي رواية : أنه قام ينفض يديه ، وجعل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله –تعالى- هذه السورة . ( {[1]} ) .
وأبو لهب : هو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم . . وامرأته هي : أروى بنت حرب بن أمية ، وكنيتها أم جميل .
روي أنها سمعت ما نزل في زوجها وفيها من قرآن ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فِهْر –أي : حجر- فلما وقفت أخذ الله –تعالى- بصرها عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه . . ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " ما رأتني ، لقد أخذ الله بصرها عني " ( {[2]} ) .
معنى { تَبَّتْ } هلكت وخسرت ، ومنه قوله - تعالى - : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } - سبحانه - : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } ، وقوله : { وَتَبَّ } أي : وقد تب وهلك وخسر ، فالجملة الأولى دعاء عليك بالهلاك والخسران ، والجملة الثانية : إخبار عن أن هذا الدعاء قد استجيب ، وأن الخسران قد نزل به فعلا .
أى : خسرت وخابت يدا أبي لهب ، وقد نزل هذا الهلاك والخسران به ، بسبب عداوته الشديدة للحق ، الذي جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه - سبحانه - .
والمراد باليدين هنا : ذاته ونفسه ، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما في قوله - تعالى - : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } ويجوز أن يكون المراد باليدين حقيقتهما ، وذلك لأنه كان يقول : يعدني محمد صلى الله عليه وسلم بأشياء ، لا أدري أنها كائنة ، يزعم أنها بعد الموت ، فلم يضع فى يدي شيء من ذلك ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تبا لكما ما أرى فيكما شيئا .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ * مَآ أَغْنَىَ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىَ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مّسَدٍ } .
يقول تعالى ذكره : خَسِرت يدا أبي لهب ، وخَسِر هو . وإنما عُنِي بقوله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ تبّ } عمله . وكان بعض أهل العربية يقول : قوله : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } : دعاء عليه من الله .
وأما قوله : { وَتَبّ } فإنه خبر . ويُذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبّ » . وفي دخول «قد » فيه دلالة على أنه خبر ، ويمثّل ذلك بقول القائل لآخر : أهلَكك الله ، وقد أهلكك ، وجعلك صالحا ، وقد جعلك . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } : أي خسرت وتب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبّ } قال : التبّ : الخسران ، قال : قال أبو لهب للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ماذا أُعطَى يا محمد إن آمنت بك ؟ قال : «كمّا يُعْطَى المُسْلِمُونَ » ، فقال : مالي عليهم فضل ؟ قال : «وأيّ شَيْءٍ تَبْتَغِي ؟ » قال : تبا لهذا من دين تبا ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل الله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } يقول : بما عملت أيديهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } قال : خَسِرت يدا أبي لهب وخَسِر .
وقيل : إن هذه السورة نزلت في أبي لهب ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خَصّ بالدعوة عشيرتَه ، إذ نزل عليه : { وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } وجمعهم للدعاء ، قال له أبو لهب : تبا لك سائرَ اليوم ، ألهذا دعوتنا ؟ ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا ، فقال : «يا صَباحاهْ » ، فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : مالك ؟ قال : «أرأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ العَدُوّ مُصَبّحُكُمْ أوْ مُمَسّيكُمْ ، أما كُنْتُمْ تُصَدَقُونِنَي ؟ » قالوا : بلى ، قال : «فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تَبّا لك ، ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ } إلى آخرها .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن نُمير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت { وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّفا ثم نادَى : «يا صَباحاهْ » ، فاجتمع الناس إليه ، فبَيْنَ رجلٌ يجيء ، وبين آخر يبعثُ رسولَه ، فقال : «يا بَنِي هاشِمٍ ، يا بَنِي عَبْدَ المُطّلِبِ ، يا بَنِي فِهْرٍ ، يا بَنِي . . . يا بَنِي أرأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً بِسَفْحٍ هَذَا الجَبَل » يريد تغير عليكم «صَدّقْتُمُونِي ؟ » قالوا : نعم ، قال : «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تَبّا لك سائر اليوم ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت : { تَبّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ وَتَبّ } » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( { وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ورهطك منهم المخلصين ) ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى صعد الصفا ، فهتف : «يا صَباحاهْ » ، فقالوا : مَنْ هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «يا بَنِي فُلانٍ ، يا بَنِي فُلانٍ ، يا بَنِي عَبْدَ المُطّلِبِ ، يا بَنِي عَبْدَ مَنافٍ » ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «أرأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدّقْي ؟ » قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تَبّا لك ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : «تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبّ » كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، في قوله : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } قال : حين أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره ، وكان أبو لهب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان اسمه عبد العُزّى ، فذكرهم ، فقال أبو لهب : تَبا لك ، في هذا أرسلت إلينا ؟ فأنزل الله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{ تبت يدا أبي لهب وتب }، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد ابن الحسن الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا محمد بن حماد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : " صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فقال : يا صباحاه ، قال : فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا له : ما لك ؟ قال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم ، أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا جميعاً ؟ فأنزل الله عز وجل : { تبت يدا أبي لهب وتب } " ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة المسد ، وهي مكية بإجماع .
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ من طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [ عَنْهُ ] قَالَ : «لَمَّا نَزَلَتْ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ } وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا وَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهُ ، فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ ، فَقَالَ : أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ من سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ مُصبحُكُمْ أَوْ مُمسيكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا . قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ؟ تَبًّا لَك ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . . . } . إلَى آخِرِهَا » . ... هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ عَلَيْنَا يَوْمَئِذٍ ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ : «فَلَمَّا سَمِعَت امْرَأَتُهُ مَا نَزَلَ فِي زَوْجِهَا وَفِيهَا من الْقُرْآنِ ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ من حِجَارَةٍ ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تَرَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ . فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَيْنَ صَاحِبُك ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي ، فَوَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَشَاعِرَةٌ : مُذَمَّمًا عَصَيْنَا * وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا * وَدِينَهُ قَلَيْنَا ثُمَّ انْصَرَفَتْ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ قَالَ : مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي » . وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُذَمَّمًا ، ثُمَّ يَسُبُّونَهُ ، فَكَانَ يَقُولُ : أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي من أَذَى قُرَيْشٍ ، يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أبو لهب - [ واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ] هو عم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه ، وكان هو وامرأته " أم جميل " من أشد الناس إيذاء لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللدعوة التي جاء بها . .
قال ابن إسحاق : " حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : " إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول ، وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على القبيلة فيقول : " يا بني فلان . إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به " وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان . هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ، ولا تتبعوه . فقلت لأبي : من هذا ? قال عمه أبو لهب . [ ورواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ ] .
فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ، وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة . [ وهي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ] .
ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منذ اليوم الأول للدعوة . أخرج البخاري - بإسناده - عن ابن عباس ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : " يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ? أكنتم مصدقي ? قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب . ألهذا جمعتنا ? تبا لك . فأنزل الله( تبت يدا أبي لهب وتب . . . )الخ . وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك سائر اليوم ! ألهذا جمعتنا ? ! فأنزل الله السورة .
ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولو لم يكونوا على دينه ، تلبية لدافع العصبية القبلية ، خرج أبو لهب على إخوته ، وحالف عليهم قريشا ، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] .
وكان قد خطب بنتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما !
وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى الدعوة ، لا هوادة فيها ولا هدنة . وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] فكان الأذى أشد . وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي ؛ وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة .
نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته . وتولى الله - سبحانه - عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أمر المعركة. !
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف سورة تبت، وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وفي أكثر كتب التفسير ، تسمية لها بأول كلمة فيها .
وسميت في بعض المصاحف وفي بعض التفاسير سورة المسد . واقتصر في الإتقان على هذين .
وسماها جمع من المفسرين سورة أبي لهب على تقدير : سورة ذكر أبي لهب . وعنونها أبو حيان في تفسيره سورة اللهب، ولم أره لغيره .
روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة . وسبب نزولها على ما في الصحيحين عن ابن عباس قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فنادى " يا صباحاه " كلمة ينادى بها للإنذار من عدو يصبح القوم فاجتمعت إليه قريش فقال : إني نذير لكم من يدي عذاب شديد أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدو ممسيكم أو مصبحكم أكنتم تصدقوني? قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا? فنزلت تبت يدا أبي لهب . ووقع في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا إلى آخر الحديث المتقدم .
ومعلوم أن آية { وأنذر عشيرتك الأقربين } من سورة الشعراء وهي متأخرة النزول عن سورة تبت ، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين وقومك منهم المخلصين } ولم يقل من سورة الشعراء خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب .
زجر أبي لهب على قوله تبت لك ألهذا جمعتنا? ووعيده على ذلك ، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها ، وبغضها النبي صلى الله عليه وسلم .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نجد في هذه السورة تأكيداً للقيمة الإسلامية الرافضة للقرابة إذا كانت منفصلة عن الانتماء الإسلامي ، حتى لو كانت متصلة بالنبي بأوثق الصلات ، فإن أبا لهب الكافر المشرك لم يحصل من قرابته للنبي على أيّ امتيازٍ ، بعد أن كان عدوّاً لله ورسوله ؛ بل كانت المسألة ضد الامتياز ، فقد ذكره القرآن بالذمّ والتحقير ، ولم يذكر أحداً من المشركين غيره ، تأكيداً للرفض الإسلامي له بالمستوى الذي يفوق رفضه للآخرين من المشركين ؛ لأن النسب قد أضاف إلى جريمته جريمةً باعتباره الأعرف بالرسول ، فكيف يتنكّر له ولرسالته ....
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : خَسِرت يدا أبي لهب ، وخَسِر هو . وإنما عُنِي بقوله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ تبّ } عمله .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... تخصيص أبي لهب بالذكر من بين سائر الكفرة يحتمل وجوها :
أحدها : خصه بالاسم ؛ لأنه كان من الفراعنة والأكابر ، وهو المقصود به ....
والثاني : كان شديد الهيبة والخوف ، فذكره باسمه ، وخصه به ليعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يهابه ، ولا يخافه ، والله أعلم ....
ثم ذكره بالكنية يخرج على وجوه :
أحدها : يحتمل أن يكون بالكنية عرف عند الناس ، وبها كان معروفا دون اسمه ، فذكره بالذي كان معروفا به .
والثاني : ما ذكر أن اسمه كان عبد العزى ، فلم يرد أن ينسبه إلى غيره ، وهو العزى ، فذكره بالكنية لهذا .
والثالث : أنه عيره بأشياء ، وخوفه بمواعيد . فلو ذكره باسمه ، فلعله يصرف ذلك الخطاب والوعيد الذي كان له إلى غيره لما شرك غيره في الاسم ، إذ كانوا يسمون أولادهم ، وينسبونهم إلى أصنامهم ، ولم يكن أحد شركه في كنية ، فلا يمكنه التحويل إلى غيره . وقيل : ذكره بالكنية يخرج مخرج الوعيد له ، أي تصير النار كالابن ، وهو كالأب لها ، وذلك لأن هذه الكنى إنما تذكر في المتعارف على وجه التفاؤل ....ووجه آخر ، وهو أن ذكر الكنية ، وإن كان يراد بها التعظيم ، فعند ذكر المواعيد والعقوبات يراد بها الاستخفاف والإهانة ، وهو على ما ذكر في البشارة أنها وإن كانت تذكر عندما يبشر ، ويبهج في الأغلب ، فعند ذكر العقوبة نذارة ، كقوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ( آل عمران : 21 ) . فعلى ذلك الكنية ، والله أعلم .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى : هلكت يداه ... { وَتَبَّ } وهلك كله . أو جعلت يداه هالكتين . والمراد : هلاك جملته ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ تبت } ، أي حصل القطع الأعظم ، والحتم الأكمل ، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة ، وهي المؤدية إلى الهلاك ؛ لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة ، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها ب " قل " كأخواتها ؛ لأن هذا أكثر أدباً وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم ، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن ، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم ، وأقرب إلى التخويف وتجويز سرعة الوقوع . ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان ، فإذا اختلت اختل أمره ، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعاً ، قال مشيراً بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئاً ، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس ، ومشيراً بالكنية وإن كان يؤتى بها غالباً للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله ، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله : { يدا أبي لهب } فلا قدرة له على إعطاء ولا منع ، ولا على جلب ولا دفع .... { وتب } أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران ، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده ، والظاهر أن الأول دعاء ، والثاني خبر ، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم ؛ لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( تبت يدا أبي لهب وتب ) . . والتباب الهلاك والبوار والقطع . ( وتبت )الأولى دعاء . ( وتب )الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء . ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق ، وتنتهي المعركة ويسدل الستار !