التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أجاب به المعبودون فقال : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } .

أى قال المعبودون لخالقهم - عز وجل - : " سبحانك " أى : ننزهك تنزيها تاما عن الشركاء وعن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، وليس للخلائق جميعا أن يعبدوا أحدا سواك . ولا يليق بنا نحن أو هم أن نعبد غيرك ، وأنت يا مولانا الذى أسبغت عليهم وعلى آبائهم الكثير من نعمك . " حتى نسوا الذكر " أى : حتى تركوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك " وكانوا " بسبب ذلك " قوما بورا " أى : هلكى ، جمع بائر من البوار وهو الهلاك .

قال القرطبى : وقوله { بُوراً } أى : هلكى قاله ابن عباس . . . وقال الحسن " بورا " أى : لا خير فيهم ، مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها عن الزرع فلا يكون فيها خير . وقال شَهْر بن حَوْشَب : البوار : الفساد والكساد ، من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفساد . . . وهو اسم مصدر يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث .

وهكذا ، يتبرأ المعبودون من ضلال عابديهم ، ويوبخونهم على جحودهم لنعم الله - تعالى - وعلى عبادتهم لغيره . ويعترفون لخالقهم - عز وجل - بأنه لا معبود بحق سواه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلََكِن مّتّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } .

يقول تعالى ذكره : قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى : تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم ، أنت ولينا من دونهم ، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة حتى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكي قد غلب عليهم الشقاء والخِذْلان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآباءَهُمْ حتى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول : قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا ، ولم تكن لهم أعمال صالحة .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وكانُوا قَوْما بُورا يقول : هلكى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وكانُوا قَوْما بُورا يقول : هَلْكَى .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن : وكانُوا قَوْما بُورا قال : هم الذين لا خير فيهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكانُوا قَوْما بُورا قال : يقول : ليس من الخير في شيء . البور : الذي ليس فيه من الخير شيء .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِياءٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : نَتّخِذَ بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القَعقاع ، فإنهما قرآه : «أنْ نُتّخَذَ » بضمّ النون . فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بيّنّاه في تأويله ، من أن الملائكة وعيسى ومن عُبد من دون الله من المؤمنين هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره . وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون ، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يُعْبدوا من دون الله جلّ ثناؤه ، كما أخبر الله عن عيسى أنه قال إذا قيل أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لي بِحَقَ ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون ، لعلل ثلاث : إحداهنّ إجماع من القرّاء عليها . والثانية : أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سَبَأ ، فقال : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثم يقولُ للملائكة أهؤلاءِ إياكُم كانُوا يَعْبُدون قالوا سُبْحَانك أنتَ وَلِيّنا من دُونِهِمْ ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءُوا إلى الله من ولايتهم ، فقالوا لربهم : أنت وليّنا من دونهم ، فذلك يوضّح عن صحة قراءة من قرأ ذلك : ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِياء بمعنى : ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء . والثالثة : أن العرب لا تدخل «مِنْ » هذه التي تدخل في الجحد إلاّ في الأسماء ، ولا تدخلها في الأخبار ، لا يقولون : ما رأيت أخاك من رجل ، وإنما يقولون : ما رأيت من أحد ، وما عندي من رجل وقد دخلت هاهنا في الأولياء وهي في موضع الخبر ، ولو لم تكن فيها «مِنْ » ، كان وجها حسنا . وأما البُور : فمصدر واحد ، وجمع للبائر ، يقال : أصبحت منازلهم بُورا : أي خالية لا شيء فيها ، ومنه قولهم : بارت السّوق وبار الطعام : إذا خلا من الطّلاب والمشتري فلم يكن له طالب ، فصار كالشيء الهالك ومنه قول ابن الزّبَعْرَى :

يا رَسُولَ المَلِيك إنّ لسانِي *** رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ

وقد قيل : إن بور : مصدر ، كالعدل والزور والقطع ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث . وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة لأنها لم تكن لله ، كما ذكرنا عن ابن عباس .