قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } الآية{[34877]} .
واعلم أن قوله : «فِي بُيُوتٍ » يقتضي محذوفاً يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه :
أحدها : أن قوله : «في بُيُوتٍ » صفة ل «مِشْكَاةٍ » أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ ، أي : في بيتٍ من بُيُوت الله{[34878]} .
( الثاني : أنه صفة ل «مصباح »{[34879]} ) {[34880]} وهذا اختيار أكثر المحققين .
واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين :
الأول : أن{[34881]} المقصود من ذكر «المصباح » المثل ، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة .
والثاني : أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً ، كقوله : «كَمشْكَاةٍ » وقوله : «فيهَا مِصْبَاحٌ »{[34882]} وقوله : «فِي زُجَاجَةٍ »{[34883]} وقوله : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }{[34884]} [ النور : 35 ] ، ولفظ «البُيُوت » جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت .
وأجيب عن الأول : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل .
وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه{[34885]} يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ، كقولك : «الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته » لكان وإن ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا{[34886]} .
الثالث : أنه{[34887]} صفة ل «زجاجة »{[34888]} . .
الرابع : أنه يتعلق ب «يُوقَدُ »{[34889]} أي : يُوقَد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض{[34890]} . وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على «عَلِيمٌ »{[34891]} .
الوجه الخامس : أنه متعلق بمحذوف كقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ }{[34892]} [ النمل : 12 ] أي : سبحوه في بيوت{[34893]} .
السادس : أنه متعلق ب «يُسَبِّحُ » أي : يسبح رجال في بيوت ، و «فيهَا » تكرير للتوكيد كقوله : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا }{[34894]} {[34895]} [ هود : 108 ] وعلى هذين القولين فيوقف على «عَلِيمٌ »{[34896]} .
قوله : «أَذِنَ اللَّهُ » في محل جر صفة ل «بُيُوت » ، و «أَنْ تُرْفَع » على حذف الجار ، أي : في أن ترفع . ولا يجوز تعلق «فِي بُيُوتٍ » بقوله : «وَيُذْكرَ » لأنه عُطِفَ على ما في حيز «أَنْ » وما بعد «أن » لا يتقدم عليها{[34897]} .
قال أكثر المفسرين : المراد ب «البيوت » ههنا : المساجد .
وقال عكرمة : هي البيوت كلها . والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع ، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد . ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة . وبيت المقدس بناه داود وسليمان - عليهما السلام{[34898]} - ومسجد المدينة بناه النبي - عليه السلام{[34899]} - ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن بريدة . وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل . وهذا تخصيص بغير دليل .
وقال ابن عباس : المراد جميع المساجد كما تقدم{[34900]} .
قوله : «أَنْ تُرفَعَ » . قال مجاهد : تبنى{[34901]} كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت }{[34902]} [ البقرة : 127 ] ، وهو مرويّ عن ابن عباس . وقال الحسن والزجاج{[34903]} : تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال . وقيل : مجموع الأمرين{[34904]} { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } .
قال ابن عباس : يتلى فيها كتابه . وقيل : عام في كل ذكر{[34905]} { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } .
قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول{[34906]} ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث{[34907]} ، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ، فالذي يليه أولى{[34908]} ، و «رِجَالٌ » على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : «مَنْ يُسَبِّحُهُ » ؟ فقيل : «يُسَبِّحُهُ رجالٌ }{[34909]} ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر :
ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ *** وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح{[34910]}
كأنه قيل : من يَبْكيه ؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ ، إلاَّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً : منهم من ( جَوَّزهُ وقاس ){[34911]} عليه : «ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ » أي : ضَرَبَهَا زيدٌ . ومنهم من مَنَعهُ{[34912]} .
والوجه الثاني في البيت أن «يَزِيدُ » منادى حذف منه حرفُ النِّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً .
الثاني : أن «رِجَالٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : المُسَبِّحةٌ رجالٌ{[34913]} .
وعلى هذه القراءة يوقف على «الآصالِ »{[34914]} . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل{[34915]} ، والفاعلُ «رِجَالٌ » فلا يوقف على «الآصَالِ »{[34916]} . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة «تُسَبِّحُ » بالتاء من فوق ، وكسر الباء{[34917]} ، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها{[34918]} . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنه فتح ( الباء ){[34919]} {[34920]} . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى «الغُدُوّ والآصَالِ » على زيادة الباء ، كقولهم : «صيد عليه يومان » ( والمراد : وحشهما ){[34921]} {[34922]} . وخرَّجها غيره{[34923]} على أن القائم مقام الفاعل ضمير التَّسبيحة ، أي : تُسَبِّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً : «لِيُجْزَى قَوْماً »{[34924]} أي : «لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً »{[34925]} ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح .
اختلفوا في هذا التسبيح . فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما{[34926]} ، وقال عليه السلام{[34927]} : «من صلى صلاة البردين دخل الجنة »{[34928]} . وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين لأن اسم الأصيل يجمعهما{[34929]} ، و «الآصال » جمع أَصيل ، وهو العشي .
وإنما وحد «الغدو » لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و «الأَصيل » اسم فجمع .
قال الزمخشري : «بالغدو ، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات{[34930]} .
وقيل : صلاة الضحى ، قال عليه السلام{[34931]} : «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر ، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر ، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين »{[34932]} . وقال ابن عباس : «إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله ( مذكورة ){[34933]} ( وتلا هذه ){[34934]} الآية{[34935]} . وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله ؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : { عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَاءِ الزكاة }{[34936]} . وهذا الوجه أظهر{[34937]} .
وقرئ : «بالغدو والإيصَالِ »{[34938]} وهو الدخول في الأصل{[34939]} .