اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } الآية{[34877]} .

واعلم أن قوله : «فِي بُيُوتٍ » يقتضي محذوفاً يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه :

أحدها : أن قوله : «في بُيُوتٍ » صفة ل «مِشْكَاةٍ » أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ ، أي : في بيتٍ من بُيُوت الله{[34878]} .

( الثاني : أنه صفة ل «مصباح »{[34879]} ) {[34880]} وهذا اختيار أكثر المحققين .

واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين :

الأول : أن{[34881]} المقصود من ذكر «المصباح » المثل ، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة .

والثاني : أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً ، كقوله : «كَمشْكَاةٍ » وقوله : «فيهَا مِصْبَاحٌ »{[34882]} وقوله : «فِي زُجَاجَةٍ »{[34883]} وقوله : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }{[34884]} [ النور : 35 ] ، ولفظ «البُيُوت » جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت .

وأجيب عن الأول : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل .

وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه{[34885]} يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ، كقولك : «الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته » لكان وإن ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا{[34886]} .

الثالث : أنه{[34887]} صفة ل «زجاجة »{[34888]} . .

الرابع : أنه يتعلق ب «يُوقَدُ »{[34889]} أي : يُوقَد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض{[34890]} . وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على «عَلِيمٌ »{[34891]} .

الوجه الخامس : أنه متعلق بمحذوف كقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ }{[34892]} [ النمل : 12 ] أي : سبحوه في بيوت{[34893]} .

السادس : أنه متعلق ب «يُسَبِّحُ » أي : يسبح رجال في بيوت ، و «فيهَا » تكرير للتوكيد كقوله : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا }{[34894]} {[34895]} [ هود : 108 ] وعلى هذين القولين فيوقف على «عَلِيمٌ »{[34896]} .

قوله : «أَذِنَ اللَّهُ » في محل جر صفة ل «بُيُوت » ، و «أَنْ تُرْفَع » على حذف الجار ، أي : في أن ترفع . ولا يجوز تعلق «فِي بُيُوتٍ » بقوله : «وَيُذْكرَ » لأنه عُطِفَ على ما في حيز «أَنْ » وما بعد «أن » لا يتقدم عليها{[34897]} .

فصل

قال أكثر المفسرين : المراد ب «البيوت » ههنا : المساجد .

وقال عكرمة : هي البيوت كلها . والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع ، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد . ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة . وبيت المقدس بناه داود وسليمان - عليهما السلام{[34898]} - ومسجد المدينة بناه النبي - عليه السلام{[34899]} - ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن بريدة . وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل . وهذا تخصيص بغير دليل .

وقال ابن عباس : المراد جميع المساجد كما تقدم{[34900]} .

قوله : «أَنْ تُرفَعَ » . قال مجاهد : تبنى{[34901]} كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت }{[34902]} [ البقرة : 127 ] ، وهو مرويّ عن ابن عباس . وقال الحسن والزجاج{[34903]} : تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال . وقيل : مجموع الأمرين{[34904]} { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } .

قال ابن عباس : يتلى فيها كتابه . وقيل : عام في كل ذكر{[34905]} { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } .

قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول{[34906]} ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث{[34907]} ، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ، فالذي يليه أولى{[34908]} ، و «رِجَالٌ » على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : «مَنْ يُسَبِّحُهُ » ؟ فقيل : «يُسَبِّحُهُ رجالٌ }{[34909]} ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر :

ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ *** وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح{[34910]}

كأنه قيل : من يَبْكيه ؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ ، إلاَّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً : منهم من ( جَوَّزهُ وقاس ){[34911]} عليه : «ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ » أي : ضَرَبَهَا زيدٌ . ومنهم من مَنَعهُ{[34912]} .

والوجه الثاني في البيت أن «يَزِيدُ » منادى حذف منه حرفُ النِّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً .

الثاني : أن «رِجَالٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : المُسَبِّحةٌ رجالٌ{[34913]} .

وعلى هذه القراءة يوقف على «الآصالِ »{[34914]} . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل{[34915]} ، والفاعلُ «رِجَالٌ » فلا يوقف على «الآصَالِ »{[34916]} . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة «تُسَبِّحُ » بالتاء من فوق ، وكسر الباء{[34917]} ، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها{[34918]} . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنه فتح ( الباء ){[34919]} {[34920]} . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى «الغُدُوّ والآصَالِ » على زيادة الباء ، كقولهم : «صيد عليه يومان » ( والمراد : وحشهما ){[34921]} {[34922]} . وخرَّجها غيره{[34923]} على أن القائم مقام الفاعل ضمير التَّسبيحة ، أي : تُسَبِّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً : «لِيُجْزَى قَوْماً »{[34924]} أي : «لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً »{[34925]} ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح .

فصل

اختلفوا في هذا التسبيح . فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما{[34926]} ، وقال عليه السلام{[34927]} : «من صلى صلاة البردين دخل الجنة »{[34928]} . وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين لأن اسم الأصيل يجمعهما{[34929]} ، و «الآصال » جمع أَصيل ، وهو العشي .

وإنما وحد «الغدو » لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و «الأَصيل » اسم فجمع .

قال الزمخشري : «بالغدو ، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات{[34930]} .

وقيل : صلاة الضحى ، قال عليه السلام{[34931]} : «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر ، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر ، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين »{[34932]} . وقال ابن عباس : «إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله ( مذكورة ){[34933]} ( وتلا هذه ){[34934]} الآية{[34935]} . وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله ؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : { عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَاءِ الزكاة }{[34936]} . وهذا الوجه أظهر{[34937]} .

وقرئ : «بالغدو والإيصَالِ »{[34938]} وهو الدخول في الأصل{[34939]} .


[34877]:في ب: الآية الثاني أنه صفة للمصباح. الباء في "بيوت" تضم وتكسر لغة.
[34878]:قاله الحوفي وتبعه الزمخشري. انظر البرهان 6/249، الكشاف 3/77، البيان 2/196 البحر المحيط 6/457.
[34879]:انظر تفسير ابن عطية 10/513، الفخر الرازي 23/2، البحر المحيط 6/457.
[34880]:ما بين القوسين ذكر في ب بعد قوله: آية. ويبدو أنه سهو من الناسخ.
[34881]:أن: سقط من ب.
[34882]:من الآية السابقة.
[34883]:من الآية السابقة.
[34884]:من الآية السابقة.
[34885]:في ب: يضؤه.
[34886]:انظر الفخر الرازي 24/2.
[34887]:أنه: سقط من ب.
[34888]:انظر التبيان 2/970، البحر المحيط 6/457.
[34889]:نقله ابن عطية وأبو حيان عن الرماني. تفسير ابن عطية 10/513، البحر المحيط 6/457، التبيان 2/970.
[34890]:انظر القرطبي 12/265.
[34891]:انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (268)، البحر المحيط 6/457.
[34892]:من قوله تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين} [النمل: 12].
[34893]:انظر الكشاف 3/77.
[34894]:من قوله تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} [هود: 108].
[34895]:انظر الكشاف 3/77، تفسير ابن عطية 10/513، البيان 2/196، التبيان 2/981، البحر المحيط 6/457.
[34896]:انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (267)، البحر المحيط 6/458.
[34897]:انظر التبيان 2/981.
[34898]:في ب: عليهما الصلاة والسلام.
[34899]:في ب: صلى الله عليه وسلم.
[34900]:انظر الفخر الرازي 23/3.
[34901]:في ب: يعني. وهو تحريف.
[34902]:[البقرة: 127].
[34903]:معاني القرآن وإعرابه 4/45.
[34904]:انظر الفخر الرازي 24/3.
[34905]:انظر الفخر الرازي 24/4.
[34906]:السبعة (456)، الحجة لابن خالويه (262)، الكشف 2/139، النشر 2/332 الإتحاف (325).
[34907]:انظر الكشاف 3/78، التبيان 2/971، البحر المحيط 6/458.
[34908]:انظر البحر المحيط 6/458.
[34909]:انظر تفسير ابن عطية 10/515، البيان 2/196، التبيان 2/971، البحر المحيط 6/458.
[34910]:البيت من بحر الطويل، قاله نهشل بن حري كما في الخزانة، ونسب أيضا إلى لبيد، والحارث بن ضرار النهشلي. وقد تقدم.
[34911]:ما بين القوسين في ب: جوزواس. وهو تحريف.
[34912]:أي أنه اختلف في القياس في ذلك، فذهب الجمهور أنه لا ينقاس، والمرفوع في الآية والبيت خبر مبتدأ محذوف والتقدير: المسبح له رجال، والباكي ضارع. وجوزه الجرمي، وابن جني حيث لم يلتبس النائب بالفاعل فجوزوا: أكل الطعام زيد، وشرب الماء عمرو، بالبناء للمفعول فيهما. وعلى ذلك فلو قيل: يوعظ في المسجد رجال. لا يجوز رفع (رجال) بفعل محذوف لاحتماله المفعوليه والرفع بالنيابة عن الفاعل فيقع اللبس، فيجب أن يكون مرفوعا على النيابة عن الفاعل بخلاف: يوعظ في المسجد رجال زيد. فإنه يجوز أن يجعل (زيد) فاعل محذوف لعدم احتماله للمفعولية، لأن الفعل المبني للمفعول رفع (رجال) على النيابة عن الفاعل، ونائب الفاعل لا يكون إلا واحدا كالفاعل. شرح التصريح 1/274، الهمع 1/160.
[34913]:التبيان 2/971، البحر المحيط 6/458.
[34914]:انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (268).
[34915]:السبعة (456) الحجة لابن خالويه (262)، الكشف 2/139، النشر 332 الإتحاف (335) .
[34916]:للفصل بين الفعل وفاعله. انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (267).
[34917]:المختصر (102)، البحر المحيط 2/458.
[34918]:أي أن جمع التكسير إذا كان فاعلا يجوز أن يؤنث له الفعل، على تقدير الجماعة وهو تأنيث مجازي.
[34919]:المختصر (102)، البحر المحيط 6/458.
[34920]:ما بيت القوسين في ب. التاء. وهو تحريف.
[34921]:قال الزمخشري: (ووجهها) أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء وتجعل الأوقات مسبحة والمراد ربها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما) الكشاف 3/78.
[34922]:ما بين القوسين في ب: أي وحشها.
[34923]:وهو أبو حيان.
[34924]:[الجاثية: 14]. وهي بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول. النشر 2/372.
[34925]:انظر البحر المحيط 6/458.
[34926]:انظر الفخر الرازي 24/4.
[34927]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34928]:أخرجه البخاري (مواقيت الصلاة) 1/109، مسلم (مساجد) 1/440 الدارمي (صلاة) 1/332، أحمد 4/80.
[34929]:انظر البغوي 6/122.
[34930]:الكشاف 3/78.
[34931]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34932]:أخرجه أبو داود (صلاة) 1/378.
[34933]:مذكورة: تكلمة من الفخر الرازي.
[34934]:في النسختين: وتوريهده. والصواب ما أثبته.
[34935]:انظر الفخر الرازي 23/4.
[34936]:من الآية (37) من سورة نفسها.
[34937]:انظر الفخر الرازي 24/ 3.
[34938]:انظر تفسير ابن عطية 10/516، البحر المحيط 6/458.
[34939]:انظر الكشاف 3/87.