اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلۡغَمَٰمِ وَنُزِّلَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا} (25)

قوله : «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ » العامل{[35873]} في «يَوْمَ » إمّا ( اذكر ) ، وإمّا ينفرد{[35874]} الله بالمُلْكِ يَوْمَ تشقق{[35875]} ، لدلالة قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } عليه . وقرأ الكوفيون{[35876]} وأبو عمرو [ هنا وفي ( ق ){[35877]} «تَشَقَّقُ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد{[35878]} ، وهما واضحتان ، حذف الأولون ]{[35879]} تاء{[35880]} المضارعة أو تاء التفعل على خلاف في ذلك{[35881]} ، والباقون أدغموا تاء التفعل في الشين لما بينهما من المقاربة ، وهما ك «تَظَاهَرُونَ » و «تَظَّاهَرُونَ » حذفاً وإدغاماً ، وقد مضى في البقرة{[35882]} . قوله{[35883]} : «بِالغَمَامِ » في هذه الباء{[35884]} ثلاثة أوجه :

أحدها : على السببية ، أي : بسبب الغمام ، يعني بسبب طلوعها منها{[35885]} ، ونحوه { السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] كأنه الذي يتشقق به السماء{[35886]} .

الثاني : أنها للحال ، أي : مُلتَبِسَةً بالغمام{[35887]} .

الثالث : أنها بمعنى ( عَنْ ) ، أي : عن الغَمَام{[35888]} كقوله : { " يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ{[35889]} }{[35890]} [ ق : 44 ] ، [ والباء وعن يتعاقبان{[35891]} ، تقول : رميت عن القوس وبالقوس ]{[35892]} .

قوله : «وَنُزِّلَ المَلاَئِكَةُ » فيها اثنتا عشرة قراءة ثنتان في المتواتر ، وعشر{[35893]} في الشاذ . فقرأ ابن كثير من السبعة «وَنُنْزِلُ » بنون مضمومة ثم أخرى ساكنة وزاي خفيفة مكسورة مضارع ( أَنْزَلَ ) ، و «المَلاَئِكَةَ » بالنصب{[35894]} مفعول به ، وكان من حق المصدر أن يجيء بعد هذه القراءة على ( إِنْزَال ) . قال أبو علي : لما كان ( أَنْزَلَ ) و ( نَزَّلَ ) يجريان مجرى واحداً أجزأ{[35895]} مصدر أحدهما عن مصدر الآخر ، وأنشد :

وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الحِضْبِ{[35896]} *** . . .

لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَويْتُ بمعنى{[35897]} ، ومثله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] [ أي : تَبَتُّلاً{[35898]} ]{[35899]} وقرأ الباقون من السبعة «وَنُزِّلَ » بضم النون وكسر الزاي المشددة وفتح اللام ماضياً مبنيًّا للمفعول ، «المَلاَئِكَةُ » بالرفع{[35900]} لقيامه مقام الفاعل ، وهي موافقةٌ لمصدرها .

وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وَنَزَّلَ » بالتشديد ماضياً مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، «المَلاَئِكَةَ » مفعول به . وعنه - أيضاً - «وَأَنْزَلَ » مبنيًّا للفاعل عداه بالتضعيف مرة ، و{[35901]} بالهمزة أخرى ، والاعتذار عن مجيء مصدره على التفعيل كالاعتذار عن ابن كثير{[35902]} . وعنه - أيضاً - «وَأُنْزِلَ » مبنيًّا للمفعول{[35903]} .

وقرأ هارون عن أبي عمرو «وَتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ » بالتاء من فوق وتشديد الزاي ورفع اللام مضارعاً مبنيًّا للفاعل ، «المَلاَئِكَةُ » بالرفعِ{[35904]} مضارع «نَزَّلَ » بالتشديد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف ، أي : وتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ ما أُمِرَتْ أن تُنَزِّله .

وقرأ الخفَّاف عنه{[35905]} {[35906]} ، وجناح بن حبيش «وَنَزَلَ » مخففاً مبنيًّا للفاعل ، «المَلاَئِكَةُ » بالرفع{[35907]} . وخارجة عن أبي عمرو - أيضاً - وأبو معاذ «ونُزِّلَ » بضم النون وتشديد الزاي ، ونصب «المَلاَئِكَةَ »{[35908]} ، والأصل : ونُنْزِلُ بنونين حذفت ( إحداهما{[35909]} ){[35910]} وقرأ أبو عمرو وابن كثير في رواية عنهما بهذا الأصل «ونُنَزِّلَ »{[35911]} بنونين وتشديد الزاي{[35912]} . وقرأ أُبيّ «وَنُزِّلَتْ » بالتشديد مبنيًّا للمفعول{[35913]} ، «وَتُنُزِّلَتْ » بزيادة تاء في أوله ، وتاء التأنيث

( فيهما{[35914]} ){[35915]} .

وقرأ{[35916]} أبو عمرو في طريقة الخفاف عنه «وَنُزِلَ » بضم النون وكسر الزاي خفيفة مبنيًّا للمفعول{[35917]} . قال صاحب اللوامح : فإن صحت هذه القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، تقديره : ونُزِلَ نُزُول الملائكة ، فحذف النزول ونقل إعرابه إلى «المَلاَئِكَة » بمعنى : نَزَلَ نَازِلُ الملائكة ، لأنَّ المصدر يجيء بمعنى الاسم ، وهذا مما{[35918]} يجيء على مذهب سيبويه{[35919]} ترتيب بناء اللازم للمفعول به ، لأنَّ الفعل يدل على مصدره{[35920]} . قال شهاب الدين : وهذا تمحُّلٌ كثير دعت إليه ضرورة الصناعة{[35921]} . وقال{[35922]} ابن جني : وهذا غير معروف ، لأنَّ ( نَزَلَ ) لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة{[35923]} ، ووجهه أن يكون مثل زُكِم الرَّجُلُ وجُنَّ ، فإنه لا يقال إلا أزكمه ، وأجنّه الله ، وهذا باب سماع لا قياس{[35924]} . ونظير هذه القراءة ما تقدم في سورة الكهف في قراءة من قرأ { فَلاَ يَقُومُ لَهُمْ{[35925]} يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً }{[35926]} بنصب وزن من حيث تعدية القاصر ، وتقدم ما فيها .

فصل

الغَمَامُ : هو الأبيض الرقيق مثل الضباب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم{[35927]} . والألف واللام في «الغمام » ليس للعموم بل للمعهود ، وهو ما ذكره في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام }{[35928]} [ البقرة : 210 ] قال ابن عباس : تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها{[35929]} ، وهم أكثر ممن في الأرض من{[35930]} الجن والإنس ، [ ثم تشقق السماء ثانية ، فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ] {[35931]} ثم كذلك حتى تشقق{[35932]} السماء السابعة ، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكَرُوبِيُّون{[35933]} ، ثم حملة العرش{[35934]} .

فإن قيل : ثبت بالقياس أن نسبة الأرض إلى سماء{[35935]} الدنيا كحلقة في فلاة ، فكيف بالقياس إلى{[35936]} الكرسي والعرش ، فملائكة هذه المواضع ( بأسرها ، فكيف تتسع الأرض لكل هؤلاء ؟

فالجواب : قال بعض المفسرين : الملائكة يكونون في الغمام ، والغمام يكون ){[35937]} مقرّ الملائكة{[35938]} .


[35873]:في ب: القائل. وهو تحريف.
[35874]:في ب: نوم ينفرد. وهو تحريف.
[35875]:انظر التبيان 2/984.
[35876]:وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي. السبعة (464).
[35877]:وهو قوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا} [ق: 44].
[35878]:السبعة (464)، (607 – 608)، الحجة لابن خالويه (265)، الكشف 2/145، النشر 2/334، الأتحاف (328).
[35879]:ق: 44.
[35880]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35881]:في ب: بتاء.
[35882]:انظر شرح التصريح 2/401، الهمع 2/227، شرح الأشموني 4/351.
[35883]:عند قوله تعالى: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} [البقرة: 85]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "تظاهرون" مشددة الظاء بألف، وعاصم وحمزة والكسائي وعلي بن نصر عن أبي عمرو "تظاهرون" بالتخفيف. السبعة (163) وانظر اللباب 1/201.
[35884]:قوله: سقط من ب.
[35885]:في ب: التأويلات. وهو تحريف.
[35886]:في ب: فيها.
[35887]:انظر الكشاف 3/95.
[35888]:البيان 2/203.
[35889]:انظر معاني القرآن للفراء 2/267.
[35890]:ما بين القوسين في ب: عنهم سراعا.
[35891]:ذهب بعض الكوفيين إلى أن تعاقبهما خاص بالسؤال نحو قوله تعالى: {فاسأل به خبيرا} [الفرقان: 59]، بدليل قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [الحديد: 12] ويرى البصريون أن الباء لا تكون بمعنى (عن) وتأولوا الآية الأولى على أنها للسببية. وقال ابن هشام ردا على رأي البصريين: وفيه بعد، لأنه لا يقتضي قولك: سألت بسببه، أن المجرور هو المسؤول عنه. المغني 1/104، الهمع 2/22.
[35892]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35893]:في النسختين: وتسع.
[35894]:السبعة (464)، الكشف 2/145- 146، النشر 2/334، الإتحاف (328).
[35895]:في ب: خوأ. وهو تحريف.
[35896]:رجز قاله رؤية، وهو في ديوانه (16)، الكتاب 4/82، المخصص 8/110، 10/182، 14/187، أمالي ابن الشجري 2/141 ابن يعيش 1/112، المقرب (491) اللسان (حضب) الهمع 1/187، الحضب: بالكسر: الذكر الضخم من الحيات، أو حية دقيقة. والشاهد فيه أن يكون الانطواء مصدر التطوي، لأن المعنى واحد. قال سيبويه: (لأن معنى تطويت وانطويت واحد) الكتاب 4/82.
[35897]:قال ابن يعيش: (كل مصدرين يرجعان إلى معنى واحد، فهذه المصادر أكثر النحويين يعمل فيها الفعل المذكور لاتفاقهما في المعنى، وهو رأي أبي العباس المبرد، والسيرافي، وبعضهم يضمر لها فعلا من لفظها فيقول: التقدير: اجتوروا فتجاوروا تجاورا، وتجاوروا فاجتوروا اجتوارا، وكذلك قوله تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} [نوح: 17] أي: أنبتكم فنبتم نباتا، فتكون هذه المصادر منصوبة بفعل محذوف دل عليه الظاهر، وهو مذهب سيبويه) ابن يعيش 1/112، وانظر المقرب (491).
[35898]:الحجة: لأبي علي 6/18.
[35899]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35900]:السبعة (464)، الكشف 2/146، النشر 2/334، الإتحاف (328).
[35901]:و: سقط من ب.
[35902]:انظر المختصر (104).
[35903]:قال أبو حيان: (وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية "وأنزل" ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول مضارعه ينزل) البحر المحيط 6/494.
[35904]:قال أبو حيان: (وهارون عن أبي عمرو "وتنزل" بالتاء من فوق مضارع نزل مشددا مبنيا للفاعل) البحر المحيط 6/494.
[35905]:هو إبراهيم بن محمد أبو إسحاق المكي الخفاف، قرأ على أحمد البزي، قرأ عليه أبو بكر محمد بن عيسى الجصاص. طبقات القراء 1/26.
[35906]:عنه: سقط من ب، أي: عن أبي عمرو.
[35907]:انظر المختصر (104) البحر المحيط 6/494.
[35908]:انظر المختصر (104)، المحتسب 2/120، البحر المحيط 6/494.
[35909]:قال ابن جني: (إلا أنه حذف النون الثانية التي هي فاء فعل نزل، لالتقاء الساكنين استخفافا) المحتسب 2/120.
[35910]:ما بين القوسين في الأصل: إحديهما.
[35911]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35912]:قال ابن خالويه: ("وننزل الملائكة" هارون عن أبي عمرو) المختصر (104).
[35913]:المختصر (104)، البحر المحيط 6/494.
[35914]:البحر المحيط 6/494.
[35915]:ما بين القوسين في ب: فيها.
[35916]:وقرأ: سقط من ب.
[35917]:حكاها أبو حيان عن صاحب اللوامح، البحر المحيط 6/494، وفي المحتسب قال ابن جني: (وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو "ونزل الملائكة" خفيفة) 2/121.
[35918]:في ب: ما.
[35919]:قال سيبويه: (هذا باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره. قال: وإن شئت قلت سير عليه السير، كما قلت: سير شديد. وإن وصفته كان أقوى وأبين، كما كان ذلك في قوله: سير عليه ليل طويل ونهار طويل) الكتاب 1/232.
[35920]:انظر البحر المحيط 6/494.
[35921]:الدر المصون 5/136.
[35922]:في ب: قال.
[35923]:في ب: الملائكة.
[35924]:انظر المحتسب 2/121.
[35925]:في النسختين: له. وهو تحريف.
[35926]:[الكهف: 105].
[35927]:انظر القرطبي 13/23 -24. البحر المحيط 6/494.
[35928]:[البقرة: 210]. وانظر الفخر الرازي 24/74.
[35929]:كذا في ب، وفي الأصل: غير أهلها.
[35930]:في الأصل: ممن في السماء الدنيا ومن.
[35931]:ما بين القوسين تكملة من البغوي.
[35932]:في الأصل: تشق.
[35933]:الكروبيون: سادة الملائكة، منهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، هم المقربون الكرب القرب. اللسان (كرب).
[35934]:انظر البغوي 6/171.
[35935]:في ب: السماء.
[35936]:إلى: سقط من ب.
[35937]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35938]:انظر الفخر الرازي 24/74.