قوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها{[43512]} ، فأما الفتح فمن وجهين :
أحدهما : أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في : «اقرَرْنَ » فحذفت الثانية تخفيفاً ، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها ، فصار «قَرْنَ » على وزن{[43513]} «فَعْنَ » فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل به الثقل ، وقيل : المحذوف الراء الأولى ؛لأنه لما نقلت حركتها بقيت ساكنة وبعدها أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ووزنه على هذا «فَلْنَ » فإن المحذوف هو العين{[43514]} ، وقال أبو علي : أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف ، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما{[43515]} ، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من «قَررتُ بالمكانِ » .
والوجه الثاني : أنها أمر من «قَارَ - يَقَارُ » كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع ، ومنه «القَارَةُ »{[43516]} لاجتماعها ، فحذفت العين لالتقاء الساكنين ، فقيل : «قِرْنَ » «كخِفْنَ » ووزنه على هذا أيضاً : فلْنَ ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين :
أحدهما : قال أبو حاتم{[43517]} يقال : قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالفتح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح ؟ ! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والكسر ، حكاه أبو عبيد{[43518]} ، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ{[43519]} .
الثاني : سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر منه اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ{[43520]} للحذف ، لأن الفتحة خفيفة ، ولا يجوز قياسه على قولهم : «ظلت » في «ظللت » قال تعالى : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ] و { ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] وبابه ، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة ( فحسن{[43521]} الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط ) ، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو «اغضضن أبْصَارَكُنَّ » وكان أولى بالحذف فيقال : غُضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى : { وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } على أن ابن مالك قال : إنه{[43522]} يحذف في هذا بطريق الأولى . أو نقول : إن هذه القراءة إنما هي من «قَارَ - يَقَارُ » بمعنى اجتمع ، وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع . وأما الكسر فمن وجهين أيضاً :
أحدهما : أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع ، وهي اللغة الفصيحة{[43523]} ، ويجيء فيها التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً ، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله{[43524]} الفارسيّ ، ولا اعتراض على هذه{[43525]} القراءة لمجيئها على مشهور اللغة ، فيندفع اعتراض أبي حاتم ، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار .
الوجه الثاني : أنها أمر من «وَقَرَ » «يَقِرُ » أي ثبت واستقر ومنه «الوَقَار » وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي «قِرْنَ » ، وهذا كالأمر من وعد سواء ، ووزنه على هذا «عِلْنَ » ، قال البغوي : الأصح{[43526]} أنه أمر من «الوقار » كقولك من الوعد «عِدْنَ » ، ومن الوصل «صِلْنَ » .
وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق بها ذَرْعاً .
قوله : «تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ » مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج ، والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره ، وقد تقدم{[43527]} ، وقرأ البزِّيُّ : «ولا تبرجن » بإدغام التاء في التاء ، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة{[43528]} في : «وَلاَ تَيَمَّمُوا » .
قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً يقال : قررت : أقر وقررت : أقر ، وهما لغتان ، فإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم : وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن ، و «لا تبرجن » قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نُجَيح{[43529]} : وهو التبختر ، وقيل : هو إظهار الزينة{[43530]} ، وإبراز المحاسن للرجال «تَبَرُّجَ الجَاهِلية الأولى » قال الشعبي{[43531]} : هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية : هي{[43532]} بين داود وسليمان - عليهما السلام - ، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه ، وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمروذ ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال ، وروى عِكْرمَةُ عن ابن عباس أنه{[43533]} قال : الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه فكان يخدمه ، واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء ، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن ، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه ، فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى }{[43534]} ، وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان{[43535]} ، وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ولم يكن لها أخرى{[43536]} .
قوله : { وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله : { وَلاَ تَخْضَعْنَ . وَلاَ تَبَرَّجْنَ } بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به ، ونهى عنه { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } قال مقاتل : الرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه{[43537]} ، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس{[43538]} لله فيه رضا .
وقال قتادةُ يعني السوء{[43539]} ، وقال مجاهد : الرِّجْس{[43540]} : الشَّكُّ .
قوله : «أَهْلَ البَيْتِ » فيه أوجه : النداء والاختصاص{[43541]} ، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع «بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ »{[43542]} ، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها :
4088 - نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ *** نَمْشِي عَلَى النَّمارِقْ{[43543]}
( وقوله :{[43544]} )
4089 - نَحْنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ *** المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ{[43545]}
( و ) «نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ »{[43546]} ( و ) : «نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ{[43547]} » أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت ، واختلف في أهل البيت ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته{[43548]} ، وتلا قوله : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله } وهو قول عكرمة ومقاتل . وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم عليّ ، وفاطمة ، والحسن{[43549]} والحسين ، لما روت عائشة قالت : «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست{[43550]} فأتت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } .
وروت أم سلمة قالت : «في بيتي أنزل : إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قالت : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال : هؤلاء أهل بيتي . فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال : بلى إن شاء الله{[43551]} ، وقال زيد{[43552]} بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده ، آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس{[43553]} ، قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين ، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه ( الصلاة{[43554]} و ) السلام وملازمته{[43555]} له » .