مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًاۚ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ} (52)

ثم قال بعده : { وله ما في السموات والأرض } وهذا حق ، لأنه لما كان الإله واحدا ، والواجب لذاته واحدا ، كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وتكوينه وإيجاده ، فثبت بهذا البرهان صحة قوله : { وله ما في السموات والأرض } واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى ، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته ، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة ، لا لغرض الطاعة ، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب .

ثم قال بعده : { وله الدين واصبا } الدين ههنا الطاعة ، والواصب الدائم . يقال : وصب الشيء يصب وصوبا إذا دام ، قال تعالى : { ولهم عذاب واصب } ويقال : واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم ، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها . ويقال للعليل واصب ، ليكون ذلك المرض لازما له . قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان لصه ويطاع ، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه ، فإن طاعته واجبة أبدا .

واعلم أن قوله : { واصبا } حال ، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل . وأقول : الدين قد يعني به الانقياد . يقال : يا من دانت له الرقاب أي انقادت . فقوله : { وله الدين واصبا } أي انقياد كل ما سواه له لازم أبدا ، لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته ، والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجا إلى السبب في طرفي الوجود والعدم . والماهيات يلزمها الإمكان لزوما ذاتيا ، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا ، ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا ، فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى اتصافا دائما واجبا لازما ممتنع التغير . وأقول : في الآية دقيقة أخرى ، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح ، واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب ؟ قال المحققون : إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الإمكان ، والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلا للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه ، فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها .

إذا عرفت هذا فقوله : { وله ما في السموات والأرض } معناه : أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص ، وقوله : { وله الدين واصبا } معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائما أبدا ، وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص ، وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة .

ثم قال تعالى : { أفغير الله تتقون } والمعنى : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه ، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه ، فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى ؟ فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب : { أفغير الله تتقون } .