مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

قوله تعالى : { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصية أولى القوة ، إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون }

اعلم أن نص القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه السلام ، وظاهر ذلك يدل على أنه كان ممن قد أمن به ولا يبعد أيضا حمله على القرابة ، قال الكلبي : إنه كان ابن عم موسى عليه السلام ، لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى ، وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوى وقال محمد بن إسحق إنه كان عم موسى عليه السلام ، لأن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث وقارون بن يصهر بن قاهث . وعن ابن عباس أنه كان ابن خالته ، ثم قيل إنه كان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، إلا أنه نافق كما نافق السامري .

أما قوله : { فبغى عليهم } ففيه وجوه أحدها : أنه بغى بسبب ماله ، وبغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله والثاني : أنه من الظلم ، قيل ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم الثالث : قال القفال : بغى عليهم ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده الرابع : قال الضحاك : طغى عليهم واستطال عليهم فلم يوفقهم في أمر الخامس : قال ابن عباس : تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم السادس : قال شهر بن حوشب : بغيه عليهم أنه زاد عليهم في الثياب شبرا ، وهذا يعود إلى التكبر السابع : قال الكلبي : بغيه عليهم أنه حسد هرون على الحبورة ، يروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر وأغرق الله تعالى فرعون جعل الحبورة لهرون ، فحصلت له النبوة والحبورة وكان صاحب القربان والمذبح ، وكان لموسى الرسالة ، فوجد قارون من ذلك في نفسه ، فقال يا موسى لك الرسالة ، ولهرون الحبورة ، ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا ، فقال موسى عليه السلام : والله ما صنعت ذلك لهرون ولكن الله جعله له ، فقال والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهرون ، قال فأمر موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصاه ، فجاءوا بها ، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له ، وكان ذلك بأمر الله تعالى ، فدعا ربه أن يريهم بيان ذلك ، فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هرون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون أما ترى ما صنع الله لهرون ! فقال والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير ، وولى هرون الحبورة والمذبح والقربان ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هرون فيضعها في المذبح وتنزل النار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه ، وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى » .

أما قوله : { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة } ففيه أبحاث :

الأول : قال الكعبي : ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف الله مال قارون إلى نفسه بقوله : { وآتيناه } وأجاب بأنه لا حجة في أنه كان حراما ، ويجوز أن من تقدمه من الملوك جمعوا وكنزوا فظفر قارون بذلك ، وكان هذا الظفر طريق التملك ، أو وصل إليه بالإرث من جهات ، ثم بالتكسب من جهة المضاربات وغيرها وكان الكل محتملا .

البحث الثاني : المفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به ، وقيل هي الخزائن وقياس واحدها مفتح بفتح الميم ، ويقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة الجماعة الكثيرة والعصابة مثلها ، فالعشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف عليه السلام : { ونحن عصبة } وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم .

إذا عرفت معنى الألفاظ فنقول : ههنا قولان أحدهما : أن المراد بالمفاتح المفاتيح وهي التي يفتح بها الباب ، قالوا كانت مفاتيحه من جلود الإبل وكل مفتاح مثل إصبع ، وكان لكل خزانة مفتاح ، وكان إذا ركب قارون حملت المفاتيح على ستين بغلا ، ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول : أن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح الثاني : أن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض ، فلا يجوز أن يكون لها مفاتيح والجواب : عن الأول أن المال إذا كان من جنس العروض ، لا من جنس النقد جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد ، وأيضا فهذا الذي يقال إن تلك المفاتيح بلغت ستين حملا ، ليس مذكورا في القرآن فلا تقبل هذه الرواية ، وتفسير القرآن أن تلك المفاتيح كانت كثيرة ، وكان كل واحد منها معينا لشيء آخر ، فكان يثقل على العصبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها ، وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد ، وعن الثاني أن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق القول الثاني : وهو اختيار ابن عباس والحسن أن تحمل المفاتح على نفس المال وهذا أبين وعن الشبهة أبعد . قال ابن عباس : كانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء ، وكانت خزائنه أربعمائة ألف فيحمل كل رجل عشرة آلاف القول الثالث : وهو اختيار أبي مسلم : أن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله : { وعنده مفاتح الغيب } والمراد آتيناه من الكنوز ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة أولي القوة والهداية ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها والقائمين عليها أن يحفظوها ، ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور أحدها : قوله : { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } والمراد أن لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة أصلا ، وقال بعضهم : إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها ، فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح بها وما أحسن ما قال المتنبي :

أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا

وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركا ، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى