في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

76

( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ؛ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة . إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين . قال : إنما أوتيته على علم عندي ) . .

هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها " قارون " وتحدد قومه " قوم موسى " وتقرر مسلكه مع قومه ، وهو مسلك البغي ( فبغى عليهم )وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء :

( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) . .

ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس . لقد كان قارون من قوم موسى ، فأتاه الله مالا كثيرا ، يصور كثرته بأنه كنوز - والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول - وبأن مفاتح هذه الكنوز تعيي المجموعة من أقوياء الرجال . . من أجل هذا بغى قارون على قومه . ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور . فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال . حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب ، وتفسد الحياة . وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب .

وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي ، ورجعه إلى النهج القويم ، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء ؛ وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم ؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ؛ ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال ؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم ، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب :

إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض . إن الله لايحب المفسدين .

وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة .

( لا تفرح ) . . فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال ، والاحتفال بالثراء ، والتعلق بالكنوز ، والابتهاج بالملك والاستحواذ . . لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال ؛ وينسي نعمته ، وما يجب لها من الحمد والشكران . لا تفرح فرح الذي يستخفه المال ، فيشغل به قلبه ، ويطير له لبه ، ويتطاول به على العباد . .

( إن الله لا يحب الفرحين ) . . فهم يردونه بذلك إلى الله ، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال ، المتباهين ، المتطاولين بسلطانه على الناس .