الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

قوله : { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ } : " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، صلتُها " إنَّ " وما في حَيِّزها ، ولهذا كُسِرَتْ . ونَقَل الأخفش الصغير عن الكوفيين مَنْعَ الوَصْلِ ب " إنَّ " ، وكان يَسْتَقْبح ذلك عنهم . يعني لوجودِه في القرآن .

قوله : { لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الباءَ للتعديةِ كالهمزةِ ، ولا قَلْبَ في الكلام . والمعنى : لَتُنِيْءُ المفاتيحُ العُصْبَةَ الأقوياءَ ، كما تقولُ : أَجَأْتُه وجِئْتُ به ، وأَذْهَبْتُه وذَهَبْتُ به . ومعنى ناء بكذا : نَهَضَ بِهِ بثِقَلٍ . قال :

تَنُوْءُ بأُخْراها فَلأْياً قِيامُها *** وَتَمْشِي الهَوَيْنَى عن قَريبٍ فَتَبْهَرُ

وقال أبو زيد : " نُؤْتُ بالعَمَل أي : نَهَضْتُ " . قال :

إذا وَجَدْنا خَلَفاً بِئْسَ الخَلَفْ *** عبداً إذا ما ناء بالحِمْلِ وَقَفْ

وفَسَّره الزمخشريُّ بالإِثْقال . قال : " يُقال : ناء به الحِمْلُ ، حتى أَثْقله وأماله " وعليه يَنْطبقُ المعنى أي : لَتُثْقِلُ المفاتحُ العُصْبةَ .

والثاني : أنَّ في الكلام قَلْباً ، والأصلُ : لَتَنُوْءُ العُصْبةُ بالمفاتحِ ، أي : لَتَنْهَضُ بها . قاله أبو عبيد ، كقولهم : " عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ " . وقد تقدم الكلامُ في القَلْبِ ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ .

وقرأ بُدَيْل بن مَيْسَرة " لَيَنُوْءُ " بالياء مِنْ تحتُ والتذكير ؛ لأنه راعى المضافَ المحذوفَ . إذ التقديرُ : حِمْلُها أو ثِقْلُها . وقيل : الضَمير في " مفاتِحَه " لقارون ، فاكتسب المضافُ من المضاف إليه التذكيرَ كقولِهم : " ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ " قاله الزمخشري . يعني كما اكتسبَ " أهلُ " التأنيثَ اكتسَبَ هذا التذكيرَ .

قوله : { إِذْ قَالَ } فيه أوجهٌ : أَنْ يكونَ معمولاً لتنوءُ . قاله الزمخشري : أو ل " بَغَى " قاله ابنُ عطية . ورَدَّهما الشيخُ :/ بأنَّ المعنى ليس على التقييد بهذا الوقتِ . أو ل " آتيناه " قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ : بأن الإِتياءَ لم يكنْ ذلك الوقتَ ، أو لمحذوفٍ فقدَّره أبو البقاء : بَغَى عليهم . وهذا يَنْبغي أَنْ يُرَدَّ بما رُدَّ به قولُ ابنِ عطية . وقَدَّره الطبري : اذكُرْ ، وقَدَّره الشيخُ : أظهر الفرحَ وهو مناسِبٌ .

وقُرِىء " الفارِحين " حكاها عيسى الحجازي .