البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

وقارون أعجمي : منع الصرف للعجمة والعلمية .

وقيل : ومعنى كان من قومه : أي ممن آمن به .

قال ابن عطية : وهو إسرائيلي بإجماع . انتهى .

واختلف في قرابته من موسى عليه السلام ، إختلافاً مضطرباً متكاذباً ، وأولاها : ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث ، جد موسى ، لأن النسابين ذكروا نسبة كذلك ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ، فنافق كما نافق السامري .

{ فبغى عليهم } : ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ، ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغياً تكذب على موسى أنه تعرض لها ، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل ، ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبراً .

{ وآتيناه من الكنوز } ، قيل : أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام .

وقيل : سميت أمواله كنوزاً ، إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة ، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته .

وما موصوله ، صلتها إن ومعمولاها .

وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يعني الأخفش الصغير ، يقول : ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات ، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه ، وفي القرآن : { ما إن مفاتحه } . انتهى .

وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام ، وقالوا هنا : مقاليد خزائنه .

وقال السدي : هي الخزائن نفسها .

وقال الضحاك : ظروفه وأوعيته .

وقرأ الأعمش : مفاتيحه ، بياء ، جمع مفتاح ، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب ، أو يقارب الكذب ، فلم أكتبه .

قال أبو زيد : نؤت بالعمل إذا نهضت به .

قال الشاعر :

إذا وجدنا خلفاً بئس الخلف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف

ويقول : ناء ينوء ، إذا نهض بثقل .

قال الشاعر :

تنوء بأحراها فلأياً قيامها *** وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

وقال أبو عبيدة : هو مقلوب وأصله : لتنوء بها العصبة ، أي تنهض ، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر .

والصحيح أن الباء للتعدية ، أي لتنيء العصبة ، كما تقول : ذهبت به وأذهبته ، وجئت به وأجأته .

ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء ، واختاره النحاس ، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وتقول العرب : ناء الحمل بالبعير إذا أثقله .

قال ابن عطية : ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح ، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها ، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه ، فتأمله .

وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء ، بالياء ، وتذكيره راعى المضاف المحذوف ، التقدير : ما إن حمل مفاتحه ، أو مقدارها ، أو نحو ذلك .

وقال الزمخشري : ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال ، كقوله : ذهبت أهل اليمامة . انتهى .

يعني : أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون ، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة ، فقيل فيه ، ذهبت .

وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ : ما إن مفتاحه ، على الإفراد ، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل .

وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام .

وتقدم قبل تفسير المفاتح ، أهي المقاليد ، أو الخزائن نفسها ، أو الظروف والأوعية ؟ وعن ابن عباس والحسن : أن المفاتح هي الأموال .

قال ابن عباس : كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء ، وكانت أربعمائة ألف ، يحمل كل رجل عشرة آلاف .

وقال أبو مسلم : المراد من المفاتح : العلم والإحاطة ، كقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } والمراد : وآتيناه من الكنوز ، ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ، يتعب حفظها القائمين على حفظها .

{ إذ قال له قومه لا تفرح } : نهوه عن الفرح المطغى الذي هو إنهماك وإنحلال نفس وأشر وإعجاب ، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة ، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب ، فلا يفرح بها .

وقال أبو الطيب :

أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا

قال الزمخشري : ومحل إذ منصوب بتنوء .

انتهى ، وهذا ضعيف جداً ، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له : { لا تفرح } .

وقال ابن عطية : متعلق بقوله : { فبغى عليهم } ، وهو ضعيف أيضاً ، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك الوقت .

وقال الحوفي : الناصب له محذوف تقديره أذكر .

وقال أبو البقاء : { إذ قال له } ظرف لآتيناه ، وهو ضعيف أيضاً ، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول .

وقال أيضاً : ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي بغى عليهم ، { إذ قال له قومه } . انتهى .

ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز ، { إذ قال له قومه } .

وقال تعالى : { ولا تفرحوا بما آتاكم } والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير .

وقال الشاعر :

ولست بمفراح إذا الدهر سرني *** ولا جازع من صرفه المتحول

وقال الآخر :

إن تلاق منفساً لا تلقنا . *** فرح الخير ولا نكبوا الضر

وقرىء : الفارحين ، حكاه عيسى بن سليمان الحجازى .

و { لا يحب } : صفة فعل ، لا صفة ذات ، بمعنى الإرادة ، لأن الفرح أمر قد وقع ، فالمعنى : لا يظهر عليهم بركته ، ولا يعمهم رحمته .