{ يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود } في الآية مسائل :
المسألة الأولى : يقال : وفى بالعهد وأوفى به ، ومنه { والموفون بعهدهم } والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام ، والعهد إلزام ، والعقد التزام على سبيل الأحكام ، ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان ، فلهذا قال : { عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود } يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود ، وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق .
واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية ، وكما في قوله { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وتارة عهودا ، قال تعالى : { وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم } وقال : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان } وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمربأداء التكاليف فعلا وتركا .
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله : إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : بل يصح . حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح ، بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد ، ونذر ذبح الولد ، وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد ، وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد ، والآتي بالمركب يكون آتيا بكل واحد من مفرديه ، فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزما للصوم والذبح .
إذا ثبت هذا فنقول : وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } ولقوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } ولقوله { يوفون بالنذر } ولقوله عليه الصلاة والسلام : «أوف بنذرك » أقصى ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد ، وفي خصوص كون الذبح واقعا في الولد ، إلا أن العام بعد التخصيص حجة . وحجة الشافعي رحمه الله : أن هذا نذر في المعصية فيكون لغوا لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا نذر في معصية الله » .
المسألة الثالثة : قال أبو حنيفة رحمه الله : خيار المجلس غير ثابت ، وقال الشافعي رحمه الله : ثابت ، حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ ، لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : «المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا » .
المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمه الله : الجمع بين الطلقات حرام ، وقال الشافعي رحمه الله : ليس بحرام ، حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح } فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل ، والشافعي رحمه الله خصص هذا العموم بالقياس ، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم .
قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } .
اعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى ، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة ، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة ، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : كل حي لا عقل له فهو بهيمة ، من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل ، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق ، ثم اختص هذا الإسم بكل ذات أربع في البر والبحر ، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، قال تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } إلى قوله { والخيل والبغال والحمير } ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير . وقال تعالى : { مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } وقال : { ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله } إلى قوله { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } وإلى قوله { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } قال الواحدي رحمه الله : ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء .
إذا عرفت هذا فنقول : في لفظ الآية سؤالات : الأول : أن البهيمة اسم الجنس ، والأنعام اسم النوع فقوله { بهيمة الأنعام } يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان وهو مستدرك . الثاني : أنه تعالى لو قال : أحلت لكم الأنعام ، لكان الكلام تاما بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية . الثالث : أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان ، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع ، فما الفائدة فيه ؟
والجواب عن السؤال الأول من وجهين : الأول : أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد ، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان ، وهذه الإضافة بمعنى { من } كخاتم فضة ، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه . الثاني : أن المراد بالبهيمة شيء ، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة . الثاني : أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذا من بهيمة الأنعام . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام ، وذكاته ذكاة أمه .
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم .
المسألة الثانية : قالت الثنوية : ذبح الحيوانات إيلام ، والإيلام قبيح ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم ، فيمتنع أن يكون الذبح حلالا مباحا بحكم الله . قالوا : والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها ، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها ، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح .
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقا كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح ، بل لعل الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها . وهذا كالمكابرة في الضروريات ، وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقا ، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحقا بعوض . وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة ، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلما ، قالوا : والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة ، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة ، فكذلك القول في الذبح . وقال أصحابنا : إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه ، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه ، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال بعضهم : قوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام } مجمل ؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال ، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلابد من إضمار فعل ، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض ، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها ، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل ، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة ، إلا أن قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } دل على أن المراد بقوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام } إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه .
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ألحق به نوعين من الاستثناء : الأول : قوله { إلا ما يتلى عليكم } واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا أيضا ، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب } ووجه هذا أن قوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام } يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبين الله تعالى أنها إن كانت ميتة ، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة .
النوع الثاني : من الاستثناء قوله تعالى : { غير محلى الصيد وأنتم حرم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها ، فعرفنا أن ما كان منها صيدا ، فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام ، وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين جميعا والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله { وأنتم حرم } أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما ، يقال : أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم ، كما يقال : أجنب فهو مجنب وجنب ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب . قال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } .
واعلم أنا إذا قلنا : أحرم الرجل فله معنيان : الأول : هذا ، والثاني : أنه دخل الحرم فقوله { وأنتم حرم } يشتمل على الوجهين ، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بالحج أو العمرة ، وهو قول الفقهاء .
المسألة الثالثة : اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن الصيد حرام على المحرم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } فإن { إذا } للشرط ، والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، إلا أنه تعالى بين في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر ، قال تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فصارت هذه الآية بيانا لتلك الآيات المطلقة .
المسألة الرابعة : انتصب { غير } على الحال من قوله { أحلت لكم } كما تقول : أحل لكم الطعام غير معتدين فيه . قال الفراء : هو مثل قولك : أحل لك الشيء لا مفرطا فيه ولا متعديا ، والمعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذا كنتم محرمين .
ثم قال تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال ، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض ، فلو قال قائل : ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال : أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه ، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح .