جملة { يوم ترونها تذهل } الخ . . . بيان لجملة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [ الحج : 1 ] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئاً عظيماً وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب .
ويتعلق { يوم ترونها } بفعل { تذهل . } وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس . وأصل نظم الجملة : تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم تَرون زَلزلة الساعة . فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رُؤية تلك الزَلزلة بالإمكان .
وضمير النصب في { ترونها } يجوز أن يعود على { زلزلة } [ الحج : 1 ] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تُسمع ولا ترى . ويجوز أن يعود إلى الساعة .
ورؤيتُها : رؤيةُ ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب . وقرينة ذلك قوله { تذهل كل مرضعة } الخ .
والذهول : نسيان ما من شأنه أن لا يُنسى لوجود مقتضى تذكره ؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه ، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل . قاله شيخنا الجدّ الوزير قال : وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب ، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره . وكلّ ذلك يدل بدلالة الأوْلى على ذهول غيرها من النساء والرجال . وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية .
والتحقت هاء التأنيث بوصف { مرضعة } للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل ، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تَلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع ، كما يقال : هي ترضع . . ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال : كلّ مرضع ، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس . وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته « الكافية » بقوله :
وما من الصفات بالأنثى يخص *** عن تاء استغنى لأنّ اللفظ نص
وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد *** كذي غدت مُرضعة طِفلاً وُلِد
والمراد : أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا . فالمعنى الحقيقي مراد ، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعاً ، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن عِلقه على طريقة الكناية .
وزيادة كلمة ( كلّ ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها . ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة .
وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه ، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها ، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة . وهذا من بديع الكناية عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأوْلى ، فهو لزوم بدرجة ثانية ، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء .
و ( مَا ) في { عما أرضعت } موصولة ما صْدقُها الطفل الرضيع . والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل ، وحذفُ مثله كثير .
والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول .
وقوله { وتضع كل ذات حمل حملها } هو كناية أيضاً كقوله { تذهل كل مرضعة عما أرضعت } . ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين .
والحمل : مصدر بمعنى المفعول ، بقرينة تعلقه بفعل { تضعُ } أي تضع جنينها .
والتعبير ب { ذات حمل } دون التعبير : بحامل ، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر . فلا يقال : امرأة حامل ، بل يقال : ذات حمل قال تعالى : { وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] ، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع .
والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في { تذهل كل مرضعة عما أرضعت } .
والخطاب في { ترى الناس } لغير معيّن ، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس ، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله { يوم ترونها } ، وإنما أوثر الإفرادُ هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع . وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله { وترى } لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] وقوله { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] .
وقرأ الجمهور { سُكارى } بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف . ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ . وقوله بعده { وما هم بسكارى } قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده { ولكن عذاب الله شديد } .
وقرأه حمزة والكسائي { سَكرى } بوزن عَطشى في الموضعين . وسُكارى وسَكرى جمع سكران . وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر ، وقياس جمعه سكارى . وأما سَكرَى فهو محمول على نَوْكى لما في السكر من اضطراب العقل . وله نظير وهو جمع كسلان على كُسالى وكَسلى .
وجملة { وما هم بسكارى } في موضع الحال من الناس .
و { عذاب الله } صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجَع ، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبْن ملائكة العذاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم ترونها تذهل كل مرضعة}: تدع البنين لشدة الفزع من الساعة.. {عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها} النساء والدواب حملها من شدة الفزع، {وترى الناس سكارى} من الخوف {وما هم بسكارى} من الشراب، {ولكن عذاب الله شديد}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله تعالى:"يَوْمَ تَرَوْنَها" يقول جلّ ثناؤه: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت.
ويعني بقوله: "تَذْهَلُ": تنسى وتترك من شدّة كربها...
فتأويل الكلام إذن: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تنسى وتترك كلّ والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت...
"وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها "قال: ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام. "وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا": يقول: وتسقط كل حامل من شدّة كرب ذلك حملها.
وقوله: "وَتَرَى النّاسَ سُكارَى" قرأت قرّاء الأمصار وَتَرَى النّاسَ سُكارَى على وجه الخطاب للواحد، كأنه قال: وترى يا محمد الناس سُكارى وما هم بسُكارى... ومعنى الكلام: وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسُكارى من شرب الخمر...
"وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ" يقول تعالى ذكره: ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله، مع علمهم بشدّة عذاب الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} قال الحسن: تذهل الأم عن ولدها لغير فطام، وتلقي الحامل ما في بطنها لغير تمام.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والذهول:الذهاب عن الشيء دهشا وحيرة، وهذا تهويل ليوم القيامة، وتعظيم لما يكون فيه من الشدة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة
فإن قلت: لم قيل: {مُرْضِعَةٍ} دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة؛ ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة. {عَمَّا أَرْضَعَتْ} عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل... "سكارى"... والمعنى: وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وقيل: وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب.
فإن قلت: لم قيل أوّلا: ترون، ثم قيل: ترى، على الإفراد؟ قلت لأنّ الرؤية أوّلاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذهول: الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
«المرضع»: من لها ولد ترضعه. و«المرضعة»: من ألقمت الثدي للرضيع. وعلى هذا فقوله تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} أبلغ من مرضع في هذا المقام. فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة. فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعة لم تذهل عنه إلا لأمر أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع.
وتأمل رحمك الله تعالى السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: {ذات حمل} فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل، وعلى من هي في أول حملها ومبادئه. فإذا قيل: ذات حمل لم يكن إلا لمن ظهر حملها وصلح للوضع كاملا، أو سقطا. كما يقال: ذات ولد. فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها. وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المراد بالساعة القيام وما والاه، جعل مظروفاً لذلك اليوم الذي هو من ذلك الوقت إلى افتراق الفريقين إلى داري الإبعاد والإسعاد، والهوان والغفران، فقال تعالى: {يوم ترونها} أي الزلزلة أو كل مرضعة، أضمرها قبل الذكر، تهويلاً للأمر وترويعاً للنفس {تذهل} أي تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، وهو العامل في "يوم "ويجوز أن يكون عامله معنى الكلام، أي تستعظمون جداً ذلك اليوم عند المعاينة وإن كنتم الآن تكذبون، ويكون ما بعده استئنافاً ودل بالسور على عموم تأثيره لشدة عظمته فقال: {كل مرضعة} أي بالفعل {عما أرضعت} من ولدها وغيره... {وتضع كل ذات حمل حملها} أي تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً...
ولما كان الناس كلهم يرون الزلزلة، ولا يرى الإنسان السكر -إلا من غيره قال في الزلزلة {ترونها} وقال في {السكر}: {وترى الناس سكارى} أي لما هم فيه من الدهش والحيرة والبهت لما شاهدوا من حجاب العز وسلطان الجبروت وسرادق الكبرياء، ثم دل على أن ذلك ليس على حقيقته بقوله، نافياً لما يظن إثباته بالجملة الأولى: {وما هم بسكارى} أي من الخمر.
ولما نفى أن يكونوا سكارى من الخمر، أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة فقال: {ولكن عذاب الله} ذي العز والجبروت {شديد} فهو الذي وجب أن يظن بهم السكر، لأنه أذهب خوفه حولهم، وطير هوله عقولهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {يوم ترونها تذهل} الخ... بيان لجملة {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئاً عظيماً وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب.
ويتعلق {يوم ترونها} بفعل {تذهل} وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة: تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم تَرون زَلزلة الساعة. فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رُؤية تلك الزَلزلة بالإمكان.
وضمير النصب في {ترونها} يجوز أن يعود على {زلزلة} [الحج: 1] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تُسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.
ورؤيتُها: رؤيةُ ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله {تذهل كل مرضعة} الخ.
والذهول: نسيان ما من شأنه أن لا يُنسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل. قاله شيخنا الجدّ الوزير قال: وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكلّ ذلك يدل بدلالة الأوْلى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية.
والتحقت هاء التأنيث بوصف {مرضعة} للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تَلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع، كما يقال: هي ترضع.. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال: كلّ مرضع، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس...
والمراد: أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعاً، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن عِلقه على طريقة الكناية.
وزيادة كلمة (كلّ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة.
وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأوْلى، فهو لزوم بدرجة ثانية، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.
و (مَا) في {عما أرضعت} موصولة ما صْدقُها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل، وحذفُ مثله كثير.
والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.
وقوله {وتضع كل ذات حمل حملها} هو كناية أيضاً كقوله {تذهل كل مرضعة عما أرضعت}. ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين.
والحمل: مصدر بمعنى المفعول، بقرينة تعلقه بفعل {تضعُ} أي تضع جنينها.
والتعبير ب {ذات حمل} دون التعبير: بحامل، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال: امرأة حامل، بل يقال: ذات حمل قال تعالى: {وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.
والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في {تذهل كل مرضعة عما أرضعت}.
والخطاب في {ترى الناس} لغير معيّن، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله {يوم ترونها}، وإنما أوثر الإفرادُ هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله {وترى} لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله {فتثير سحاباً} [الروم: 48] وقوله {ويصنع الفلك} [هود: 38].
وقرأ الجمهور {سُكارى} بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده {وما هم بسكارى} قرينة على قصد التشبيه وليبني عليه قوله بعده {ولكن عذاب الله شديد}... وسُكارى وسَكرى جمع سكران، وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر، وقياس جمعه سكارى...
و {عذاب الله} صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجَع، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبْن ملائكة العذاب...
الذهول: هو انصراف جارحة عن مهمتها الحقيقية لهول رأته فتنشغل بما رأته عن تأدية وظيفتها فالذهول- إذن- سلوك لا إرادي قد يكون ذهولا عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة. العاطفة كالأم التي تذهل عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلا تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفا على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد، وإلا تعرض لما يؤذيه أو يودي بحياته. فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأي هول هذا الذي يشغلها، ويعطل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويعطل حتى الغريزة. وقوله تعالى: {وتضع كل ذات حمل حملها} بعد أن تكلم عن المرضع رقى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أن تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} [الحج 5]: فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه- إذن- مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن: وضع هذا الحمل دليل هول كبير وأمر عظيم يحدث... وقوله تعالى: {ولكن عذاب الله شديد} إنهم لم يروا العذاب بعد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم، لأن الذي يصدق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يصدق في أن بعدها عذابا في جهنم...