جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

وقوله تعالى : يَوْمَ تَرَوْنَها يقول جلّ ثناؤه : يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت . ويعني بقوله : تَذْهَلُ تنسى وتترك من شدّة كربها ، يقال : ذَهَلْت عن كذا أذْهَلَ عنه ذُهُولاً وَذَهِلْت أيضا ، وهي قليلة ، والفصيح : الفتح في الهاء ، فأما في المستقبل فالهاء مفتوحة في اللغتين ، لم يسمع غير ذلك ومنه قول الشاعر .

*** صَحَا قَلْبُهُ يا عَزّ أوْ كادَ يَذْهَلُ ***

فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه ، قلت : أذهله هذا الأمر عن كذا يُذهله إذهالاً . وفي إثبات الهاء في قوله : كُلّ مُرْضعَة اختلاف بين أهل العربية وكان بعض نحويّي الكوفيين يقول : إذا أثبتت الهاء في المرضعة فإنما يراد أمّ الصبيّ المرضع ، وإذا أسقطت فإنه يراد المرأة التي معها صبيّ ترضعه لأنه أريد الفعل بها . قالوا : ولو أريد بها الصفة فيما يرى لقال مُرْضع . قال : وكذلك كل مُفْعِل أو فاعل يكون للأنثى ولا يكون للذكر ، فهو بغير هاء ، نحو : نُقْرب ، ومُوقِر ، ومُشْدن ، وحامل ، وحائض .

قال أبو جعفر : وهذا القول عندي أولى بالصواب في ذلك لأن العرب من شأنها إسقاط هاء التأنيث من كل فاعل ومفعل إذا وصفوا المؤنث به ولو لم يكن للمذكر فيه حظّ ، فإذا أرادوا الخبر عنها أنها ستفعله ولم تفعله ، أثبتوا هاء التأنيث ليفرقوا بين الصفة والفعل . منه قول الأعشى فيما هو واقع ولم يكن وقع قبل :

فَمثْلِكَ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ *** فألْهَيْتُها عَنْ ذِي ثَمائِمَ مُحْوِلِ

وربما أثبتوا الهاء في الحالتين وربما أسقطوهما فيهما غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت .

فتأويل الكلام إذن : يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة ، تنسى وتترك كلّ والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ قال : تترك ولدها للكرب الذي نزل بها .

حدثنا القسام ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن الحسن : تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ قال : ذهلت عن أولادها بغير فطام . وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها قال : ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام . وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا : يقول : وتسقط كل حامل من شدّة كرب ذلك حملها .

وقوله : وَتَرَى النّاسَ سُكارَى قرأت قرّاء الأمصار وَتَرَى النّاسَ سُكارَى على وجه الخطاب للواحد ، كأنه قال : وترى يا محمد الناس سُكارى وما هم بسُكارى . وقد رُوي عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير : «وَتُرَى النّاسَ » بضم التاء ونصب «الناس » ، من قول القائل : أُرِيْت تُرى ، التي تطلب الاسم والفعل ، كظنّ وأخواتها .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .

واختلف القرّاء في قراءة قوله : سُكارَى فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة : «وَتَرَى النّاسَ سَكْرَى وَما هُمْ بِسَكْرَى » .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قَراءةَ الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب . ومعنى الكلام : وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسُكارى من شرب الخمر .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن الحسن : وَتَرَى النّاسَ سُكارَى من الخوف ، وَما هُمْ بِسُكارى من الشراب .

قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَما هُمْ بِسُكارَى قال : ما هُم بسكارى من الشراب وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَرَى النّاسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى قال : ما شربوا خمرا وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ يقول تعالى ذكره : ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله ، مع علمهم بشدّة عذاب الله .