الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

ثم قال تعالى : { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت }{[46554]}[ 2 ] .

أتت مرضعة بالهاء ، لجريانها على الفعل ويجوز مرضع ، كما قال : امرأة حائض وطامث وطالق . والأصل : الهاء{[46555]} . ولكن جرى عند سيبويه على معنى شيء حائض وطامث .

وقال الفراء{[46556]} : إنما قالوا : حائض وطامث ، لأن المذكر لا حظ له في هذا الوصف . فلم يحتج إلى هاء في المؤنث . وقالوا{[46557]} : قائم وقائمة ، فأتوا بالهاء في المؤنث لأنه يقع للمؤنث والمذكر وهذا القول ينتقض على الفراء لأنهم{[46558]} قالوا ناقة ضامر ، وبعير ضامر{[46559]} ، وناقة ساغل وبعير{[46560]} ساغل ، ورجل عانس{[46561]} وامرأة عانس{[46562]} فلم يدخلوا الهاء في المؤنث ، وقد شاركه المذكر في الفعل . وحذف الهاء عند سيبويه في هذا على أصله على تقديره بشيء عانس{[46563]} وساغل ونحوه ، وينتقض على الفراء قوله بقولهم : حاضت الجارية وطلقت المرأة . فلو كان حرف الهاء من أجل أنه لا يشترك فيه المذكر مع المؤنث ، لم تدخل علامة التأنيث في حاضت وطمثت وينقض أيضا قوله في قولهم رجل بالغ وامرأة بالغ ، ورجل آثم وامرأة آثم . ومعنى تذهل : تنسى وتترك{[46564]} ولدها من هول ثقل ما ترى وتضع الحامل حملها قبل بلوغ وقته . { وترى الناس سكارى } من الخوف { وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } .

قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجري فقطرت دموعي على خده ، فاستيقظ فقال : " ما يبكيك " ؟ فقلت : ذكرت القيامة وهولها . فهل يذكرون أهلهم{[46565]} يا رسول الله ؟ فقال : " يا عائشة ثلاثة مواطن لا يذكر فيها{[46566]} أحد إلا نفسه ، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل . وعند المصحف حتى يعلم ما في صحيفته وعند الصراط حتى يجاوزه{[46567]} " .

وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هاتان الآيتان على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير فكف ثم قرأها على الناس ثلاث مرات ثم قال : " يا أيها الناس ، أتدرون أي يوم{[46568]} ذلك " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنه اليوم الذي يقول الله فيه لآدم : ابعث بعث النار من ولدك . فيقول : أي رب ، من كل كم ؟ فيقول : من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيسكر الكبير يومئذ{[46569]} من غير شراب ، ويشيب الصغير " ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل{[46570]} ونزل الناس ثم راحوا{[46571]} إلى نبي الله ، فقالوا : يا رسول الله ، ما سمعنا شيئا قط أوجع لقلوبنا ولا{[46572]} أشد علينا من شيء حدثتنا به اليوم . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا فإني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، فإن الأمم عرضت علي فرأيت النبي يأتي في الثمانية رهط ويأتي النبي في الأربعة ويأتي الآخر في الاثنين ، حتى رأيت النبي وليس يأتي معه أحد من أمته ، حتى رأيت أمة أعجبني{[46573]} كثرتها فقلت أي رب ، أمتي هذه{[46574]} ؟ فقال : لا ، بل هذا موسى صلى الله عليه وسلم ومن تبعه ، ثم رأيت أمة أخرى أعجبني كثرتها ، فقلت : أي رب ، أمتي هذه ؟ قال : لا . بل هذا يونس ومن تبعه . ثم رأيت أمة أخرى أعجبني كثرتها فقلت : أي رب ، أمتي هذه ؟ قال : لا ، بل هذا عيسى ومن تبعه . فقلت : أي رب ، فأين أمتي ؟ قال لي : انظر{[46575]} ، فنظرت قبل طريق مكة فإذا أنا بناس كثير ، ثم قال : انظر : فنظرت قبل طريق الشام ، فإذا أنا بناس كثير{[46576]} ثم قال : انظر ، فنظرت قبل طريق العراق ، فإذا أنا بناس كثير ، ثم قال : انظر ، فنظرت تحتي ، فإذا كل شيء ينتغش{[46577]} من الناس من كثرتهم فقلت : أي رب{[46578]} ، قد رضيت . قال : فإن مع هذا سبعين ألفا ليس عليهم حساب ولا عذابه ، فقام عكاشة بن محصن{[46579]} الأسدي أخو بني غنم فقال : يا رسول الله ، أدع الله أن يجعلني منهم ، فقال : جعلك الله منهم فقام رجل آخر من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : سبقك بها{[46580]} عكاشة .

وقوله : { وترى الناس سكارى }[ 2 ] .

رجع من مخاطبة الجماعة من الناس إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاز أن يخرج عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة الجماعة في قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم } .


[46554]:(عما أرضعت) سقط من ز.
[46555]:انظر: المذكر والمؤنث: 53.
[46556]:انظر: معاني الفراء 2/214، وهو أيضا قول الأخفش في معاني القرآن 2/413.
[46557]:ز: وقال.
[46558]:ز: لأنه.
[46559]:وبعير ضامر سقط من ز.
[46560]:ز وغير. (تحريف).
[46561]:ز: عابس. (تصحيف).
[46562]:المصدر نفسه.
[46563]:ز: على أصل تقدير شيء عابس (تحريف وتصحيف).
[46564]:انظر: مفردات الراغب: 263.
[46565]:ز: أهليهم.
[46566]:ز: فيه.
[46567]:سبق تخريجه.
[46568]:يوم سقطت من ز.
[46569]:يومئذ سقطت من ز.
[46570]:ز: أنزل.
[46571]:ز: رجو. (تحريف).
[46572]:ز: ولا شيء.
[46573]:ز: أعجبتني.
[46574]:ز: هذه أمتي.
[46575]:قوله (أمتي هذه...انظر) ساقط من ز.
[46576]:قوله: (فنظرت..كثير) ساقط من ز.
[46577]:والانتعاش، تحرك الشيء في مكانه، يقال: دار تنتغش صبيانا ورأس تنتغش صئبانا. انظر: اللسان (نغش).
[46578]:ز: يا رب.
[46579]:ز: محسن. (تحريف). وهو عكاشة بن محصن بن حرثانة بن قيس بن مرة بن كثير بن غنم. كان من فضلاء الصحابة، شهد بدرا وأبلى فيه بلاء حسنا. انظر: ترجمته في الاستيعاب 3/1080.
[46580]:ز: إليها.