قوله : «تَرَوْنَها » في هذا الضمير قولان :
أظهرهما : أنه ضمير الزلزلة ؛ لأنها المحدث عنها{[30023]} ، ويؤيده أيضاً قوله { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } .
والثاني : أنه ضمير الساعة . {[30024]}
فعلى الأول : يكون الذهول والوضع حقيقة ؛ لأنه في الدنيا .
وعلى الثاني : يكون على سبيل التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثية ، إذ المراد بالساعة القيامة ، وهو كقوله : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً{[30025]} } [ المزمل : 17 ] .
قوله : «تَذْهَل » في محل نصب على الحال من الهاء في «تَرَوْنَها » ، فإن الرؤية هنا بَصَريَّة ، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول{[30026]} ، وأما الوجه الأول وهو أنّ «تَذْهَلُ » ناصب ل «يَوْمَ تَرَوْنَها » فلا محل للجملة من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة ، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في «عَظِيْم » وإن كان مذكراً ، لأنه هو الزلزلة في المعنى ، أو من «الساعة » وإن كانت مضافاً إليها ، لأنه إما فاعل أو مفعول كما تقدم . وإذا جعلناها حالاً فلا بد من ضمير محذوف تقديره : تذهل فيها{[30027]} . وقرأ العامة : «تَذْهَل » بفتح التاء والهاء من : ذهل عن كذا يذهل{[30028]} . وقرأ ابن أبي عبلة واليماني : بضم التاء وكسر الهاء ، ونصب «كل » على المفعول به{[30029]} من أذهله عن كذا يُذْهله ، عدّاه بالهمزة . والذهول : الاشتغال عن الشيء{[30030]} ، وقيل : إذا كان مع دهشته وقيل : إذا كان ذلك لطرآن شاغل من هَمّ أو مرض ونحوهما{[30031]} ، وذهل بن شيبان{[30032]} أصله من هذا . والمرضعة : من تلبست بالفعل ، والمرضع من شأنها أن تُرْضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل : حائضة{[30033]} . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل «مُرْضِعَة » دون مُرْضِع ؟ قلت : المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي{[30034]} ، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها ( به{[30035]} ){[30036]} . والمعنى : أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها . وقال بعض الكوفيين : المرضعة يقال للأم ، والمُرْضِع{[30037]} يقال للمستأجرة غير الأم ، وهذا مردود بقول الشاعر :
كَمُرْضِعَةٍ أَوْلاَدَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ *** بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلاَلُ عَنِ القَصْدِ{[30038]}
فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم . وقول العرب مرضعة يرد أيضاً قول الكوفيين : إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو : حائض وطالق{[30039]} . فالذي{[30040]} يقال : إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا{[30041]} ، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء ، فيقال{[30042]} : حائضة وطَالِقَة وطامثة{[30043]} .
قوله : «عَمَّا أَرْضَعتْ » يجوز في «ما » أن تكون مصدرية ، أي : عن إرضاعها ، ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا{[30044]} . ويجوز أن تكون بمعنى ( الذي ) ، فلا بد من حذف عائد ، أي : أرضعته ، ويقويه تعدي «تضع » إلى مفعول{[30045]} دون مصدر{[30046]} . والحمل - بالفتح - ما كان في بطن أو على رأس شجر ، وبالكسر ما كان{[30047]} على ظهر{[30048]} .
قوله : { وَتَرَى الناس سكارى } . العامة على فتح التاء من «تَرَى » على خطاب الواحد{[30049]} .
وقرأ زيد بن عليّ بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة ، أو الساعة{[30050]} وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى{[30051]} به ، أي{[30052]} : وتُرِي{[30053]} الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى . ويؤيد هذا قراءة أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك «تُرَى النَّاسَ سُكَارَى » بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب «النَّاسَ{[30054]} » ، بَنَوْه من المتعدي لثلاثة ، فالأول قام مقام الفاعل وهو ضمير المخاطب ، و «النَّاسَ سُكَارَى » هما الثاني والثالث{[30055]} .
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوماً سكارى ، ف «النَّاس » هو الأول و «سُكَارَى » هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس{[30056]} في اختياره «وترى » كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعاً «النَّاسَ » على أنه مفعول لم يسم{[30057]} فاعله ، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة{[30058]} . وقرأ الأخوان{[30059]} «سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى » على وزن وصفه المؤنثة بذلك{[30060]} واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى{[30061]} كمرضى وقتلى{[30062]} ، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم في قوله «أَسْرَى{[30063]} » . وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال : وقوم يقولون : «سَكْرَى » جعلوه مثل مَرْضَى . لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى ، وهم المستثقلون نوماً لا من شرب الرائب{[30064]} .
وقال الفارسي : ويجوز أن يكون جمع سَكِر كزَمِن وزَمْنَى ، وقد حكي : رجل سكر بمعنى{[30065]} سكران ، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع{[30066]} . قال شهاب الدين : ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله :
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْت يُثْقِلُني *** ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرْ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً *** فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرْ{[30067]}
ويروى البيت الأول : الشارب الثمل . وبالراء{[30068]} أصح لدلالة البيت الثاني عليه{[30069]} .
وقرأ الباقون «سُكَارَى » بضم السين{[30070]} ، وقد تقدم في البقرة خلاف ، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع{[30071]} . وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما{[30072]} ، وهو جمع تكسير واحده سكران{[30073]} . قال أبو حاتم : وهي لغة تميم{[30074]} . وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سُكْرَى » «وَمَا هُمْ بِسُكْرَى » بضم السين فيهما{[30075]} . فقال ابن جني : هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي{[30076]} . وقال أبو الفضل : فُعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث ، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد{[30077]} .
وقال الزمخشري : وهو{[30078]} غريب{[30079]} . قال شهاب الدين : ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرُّبَّى{[30080]} والحُبْلَى . وجوَّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفاً من سكارى{[30081]} وكان من حق هذا القارئ أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن{[30082]} . وقرئ «ويَرَى الناسُ » بالياء من تحت ، ورفع «النَّاسُ{[30083]} » .
وقرأ أبو زرعة في رواية «سَكْرَى » بالفتح «ومَا هُمْ بِسُكْرَى » بالضم{[30084]} . وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني{[30085]} . وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز ، أي : { وَتَرَى الناس سكارى{[30086]} } على التشبيه { وَمَا هُم بسكارى{[30087]} } على التحقيق{[30088]} . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل أولاً : ترون ، ثم قيل : ترى على الإفراد ؟ قلت : لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة ، فجعل الناس جميعاً رائين لها ، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم{[30089]} .
«روي أن هاتين{[30090]} الآيتين نزلتا بالليل{[30091]} في غزوة بني المصطلق ، والناس يسيرون ، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم يُرَ أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على{[30092]} الدواب ولم يضربوا الخيام{[30093]} ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكر . فقال عليه السلام{[30094]} : «أَتَدْرُونَ أَيَّ ذَلِكَ اليَوْم » ؟ قالوا : اللَّهُ وَرَسُولُه أَعْلَم . قال : «ذَلِكَ يَوْم يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لآدم : قُمْ فَابعَثْ بَعْثَ النَّار{[30095]} مِنْ وَلَدِك ، فَيَقُول آدَمُ : وَمَا بعث النَّارِ ؟ فيقُولُ اللَّهُ تعالى مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعمائةٍ وتسعة وتسعون إلى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلى الجَنَّة ، فَعِنْدَ ذَلِك يَشيْبُ الصَّغِيْر ، وتَضَعُ كُلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَهَا ، وَترى النَّاسَ سُكَارَى وَما هُم بِسُكارى وَلَكِن عَذاب اللَّهِ شَدَيد » قال : فيقولون : وأَيُّنا ذِلكَ الواحِدُ فقال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «تِسْعمائةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ومنكُمْ وَاحِد « . {[30096]}
وفي رواية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يَسِّرُوا وسَدِّدُوا وقَارِبُوا فَإنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْن مَا كَانَتَا في قَوْم إِلاَ كَثُروا يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ » ثم قال : «إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُوْنُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنَّة » فكبَّرُوا وحَمَدُوا اللَّهَ ، ثم قال : «إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّة » فَكبَّرُوا وحَمَدُوا الله ، ثم قال : «إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تُكُونُوا ثُلُثَي أهلِ الجَنَّة ، إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ مائَة وعشرُونَ صَفّاً ، ثَمَانُونَ مِنْ{[30097]} أُمتَّي وما المُسلمُونَ في الكُفَّار إلا كالشَّامَةِ في جنب البعير ، أو كالشَّعرة البيضاء في الثور الأسود » ثم قال : «ويَدْخُلُ مِنْ أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفاً الجَنَّة بِغَيْر حِسَاب » فقال عمر : سبعُونَ ألفاً . فقال{[30098]} : «نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفاً » فقام عكاشة بن محصن وقال : يا رسول اللَّهِ ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم . قال : «أَنْتَ مِنْهُم » فقام رجل من الأنصار وقال مثل قوله{[30099]} ، فقال{[30100]} : «سبقك بها عكاشة{[30101]} » . فخاض الناس في السبعين ألفاً ، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالوا ، فقال عليه السلام{[30102]} : «هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا{[30103]} ينظرون وعلى ربهم يتوكلون{[30104]} » .
معنى الآية قال ابن عباس : «تَذْهَلُ » تشغل ، وقيل : تتنسى{[30105]} «كُلُّ مُرْضِعَةٍ » إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة «عَمَّا أَرْضَعَتْ » أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي تسقط ولدها التمام وغير التمام . قال الحسن : وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا ؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل{[30106]} . قال القفال : ويحتمل أن يقال : إن من ماتت حاملاً أو مرضعة بعثت حاملاً ومرضعة تضع حملها من الفزع ، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيبا }{[30107]}{[30108]} . [ المزمل : 17 ] .
و { وَتَرَى الناس سكارى } من الخوف { وَمَا هُم بسكارى } من الشراب{[30109]} . وقيل : معناه كأنهم سكارى ، ولكن ما أرهقهم{[30110]} من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم{[30111]} .
فإن قيل : هل يحصل ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة ؟
فالجواب : قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار ، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون ، لقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر }{[30112]} [ الأنبياء : 103 ] وقيل : بل يحصل للكل ؛ لأنه سبحانه لا اعتراض{[30113]} عليه في شيء من أفعاله . {[30114]}
احتجت المعتزلة{[30115]} بقوله { إِنَّ زَلْزَلَةَ{[30116]} الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة . وبقوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[30117]} } [ البقرة : 20 ] فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً ، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود ، وإذا بطل هذا{[30118]} ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم ، فالمعدوم شيء ( واحتجوا أيضاً بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله{[30119]} } [ الكهف : 23 - 24 ] أطلق اسم الشيء على المعدوم في الحال ، فالمعدوم شيء{[30120]} ) . وأجيب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة . وهي جواهر قامت بها أعراض ، وتحقق ذلك في العدم محال ، فالزلزلة{[30121]} يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها ، فلا بد من التأويل ، ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً وهذا هو الجواب عن الباقي {[30122]} .