نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

ولما كان المراد بالساعة القيام وما والاه ، جعل مظروفاً لذلك اليوم الذي هو من ذلك الوقت إلى افتراق الفريقين إلى داري الإبعاد والإسعاد ، والهوان والغفران ، فقال تعالى : { يوم ترونها } أي الزلزلة أو كل مرضعة ، أضمرها قبل الذكر ، تهويلاً للأمر وترويعاً للنفس { تذهل } أي تنسى وتغفل حائرة مدهوشة ، وهو العامل في " يوم " ويجوز أن يكون عامله معنى الكلام ، أي تستعظمون جداً ذلك اليوم عند المعاينة وإن كنتم الآن تكذبون ، ويكون ما بعده استئنافاً ودل بالسور على عموم تأثيره لشدة عظمته فقال : { كل مرضعة } أي بالفعل { عما أرضعت } من ولدها وغيره ، وهي من ماتت مع أبنها رضيعاً ، قال البغوي : يقال : مرضع ، بلا هاء - إذا أريد به الصفة مثل حائض وحامل ، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء - يعني : فيدل حينئذ أنها ملتبسة به { وتضع كل ذات حمل حملها } أي تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً ، وهي من ماتت حاملاً - والله أعلم ، فإن كل أحد يقوم على ما مات عليه ، قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام - انتهى . ويؤيد أن هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما في الصحيحين وغيرهما : مسلم في الإيمان وهذا لفظه ، والبخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رفعه : " يقول الله عز وجل : يا آدم ! فيقول : لبيك وسعديك ! والخير في يديك ، قال : يقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فذلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها " الحديث والأحاديث في ذلك كثيرة ، ومعارضها ضعيف ، والمناسب أيضاً لما في آخر تلك من قوله{ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا }[ الأنبياء : 97 ] وما تبعه أن هذه الزلزلة بعد القيام من القبور{ يوم نطوي السماء }[ الأنبياء : 104 ] { إذا السماء انفطرت }[ الانفطار : 1 ] إلى قوله :{ علمت نفس ما قدمت وأخرت }[ الانفطار : 5 ] ويمكن أن يكون المراد هذا وما قبله لأن يوم الساعة طويل ، فنسبة الكل إليها على حد سواء .

ولما كان الناس كلهم يرون الزلزلة ، ولا يرى الإنسان السكر - إلا من غيره قال في الزلزلة { ترونها } وقال في { السكر } : { وترى الناس سكارى } أي لما هم فيه من الدهش والحيرة والبهت لما شاهدوا من حجاب العز وسلطان الجبروت وسرادق الكبرياء ، ثم دل على أن ذلك ليس على حقيقته بقوله ، نافياً لما يظن إثباته بالجملة الأولى : { وما هم بسكارى } أي من الخمر .

ولما نفى أن يكونوا سكارى من الخمر ، أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة فقال : { ولكن عذاب الله } ذي العز والجبروت { شديد* } فهو الذي وجب أن يظن بهم السكر ، لأنه أذهب خوفه حولهم ، وطير هوله عقولهم .