السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

{ يوم ترونها } أي : الزلزلة أو الساعة ، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلاً للأمر ، وترويعاً للنفس { تذهل } بسبب ذلك { كل مرضعة } أي : بالفعل أي : تنسى وتغفل حائرة مدهوشة ، والعامل في يوم تذهل .

فإن قيل : لم قال تعالى : { مرضعة } ، ولم يقل : مرضع ؟ أجيب : بأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع ، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وضعها ، فقال : مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة { عما أرضعت } عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، فما إمّا مصدرية أو موصولة { وتضع كل ذات حمل حملها } أي : تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً .

تنبيه : هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها ، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك ؟ فقيل : هو تصوير لهولها ، قاله البيضاوي ، وقال البقاعي في المرضعة : هي من ماتت مع ابنها رضيعاً ، وفي ذات الحمل : من ماتت حاملاً ، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه ، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته ، فذكرت له هذين القولين ، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني ، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة ، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام .

ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك زاد في رواية والخير في يديك فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ؛ قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذٍ تضع الحوامل حملها ، ويشيب الوليد وساق بقية الآية » ، وهي { وترى الناس سكارى } أي : لما هم فيه من الدهشة والحيرة ، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى : { وما هم بسكارى } أي : من الشراب ، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله : { ولكنّ عذاب الله } ذي العزة والجبروت { شديد } فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر ؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم ، تم الحديث عند آخر الآية ، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم زاد في رواية قالوا : يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ، ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار ، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبّرنا ، ثم قال : ثلث أهل الجنة ، فكبّرنا ، ثم قال : شطر أهل الجنة فكبّرنا » ، وفي رواية : «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة » .

روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فلم نرَ أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً ، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال ذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث بعث النار وذلك نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال : «يدخل من أمّتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب » قال عمر : سبعون ألفاً ؟ قال : «نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً » .

وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وسكون الكاف فيهما ، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعد الكاف ألف ، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة ، وورش بين بين ، والباقون بالفتح . ونزل في النضر بن الحرث ، وكان كثير الجدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً