المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعاً عند الجميع منهم مستعملا جداً ، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في السبت{[6]} .

و{ من } تحتمل أن تكون للتبعيض ، فالمعنى من صيد البر دون البحر ، ذهب إليه الطبري وغيره ، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم ، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس ، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الرزق ، وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }{[7]} وقوله { بشيء } يقتضي تبعيضاً ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم }{[8]} أعطت تبعيضاً ما ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله » بالياء منقوطة من تحت ، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر ، والرماح تنال كبار الصيد .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم{[9]} المتصرف في الاصطياد ، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات ، وما عمل باليد من فخاخ وشباك ، وخص الرماح بالذكر لأنها ُعْظم ما يجرح به الصيد ، وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد{[10]} للآخذ لا للمثير بهذه الآية ، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً ، وقوله تعالى { ليعلم } معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل . وقرأ الزهري «ليُعلِم الله » بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده ، و { بالغيب } قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه ، وقد خفي له لو صاد ، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله { ليبلونكم } وأشار إليه قوله { ذلك } والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة .


[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).