مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

قوله تعالى : { يا أيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم }

اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام ، ووجه النظم أنه تعالى كما قال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك ، فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات ، وبين دخوله في المحرمات .

وهاهنا مسائل :

المسألة الأولى : اللام في قوله { ليبلونكم الله } لام القسم ، لأن اللام والنون قد يكونان جوابا للقسم ، وإذا ترك القسم جيء بهما دليلا على القسم .

المسألة الثانية : الواو في قوله { ليبلونكم } مفتوحة لالتقاء الساكنين .

المسألة الثالثة : ليبلونكم أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم أي ليعاملنكم معاملة المختبر .

المسألة الرابعة : قال مقاتل بن حيان : ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم ، فيقدرون على أخذها بالأيدي ، وصيدها بالرماح ، وما رأوا مثل ذلك قط ، فنهاهم الله عنها ابتلاء . قال الواحدي : الذي تناله الأيدي من الصيد ، الفراخ والبيض وصغار الوحش ، والذي تناله الرماح الكبار ، وقال بعضهم : هذا غير جائز ، لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لم يمتنع .

المسألة الخامسة : معنى التقليل والتصغير في قوله { بشيء من الصيد } أن يعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي يكون التكليف فيها صعبا شاقا ، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، وإنما هو ابتلاء سهل ، فإن الله تعالى امتحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر ، وهو صيد السمك .

المسألة السادسة : من في قوله { من الصيد } للتبعيض من وجهين : أحدهما : المراد صيد البر دون البحر . والثاني : صيد الإحرام دون صيد الإحلال ، وقال الزجاج : يحتمل أن تكون للتبيين كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } .

المسألة السابعة : أراد بالصيد المفعول ، بدليل قوله تعالى : { تناله أيديكم ورماحكم } والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثا ، وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما كان عينا .

ثم قال تعالى : { ليعلم الله من يخافه بالغيب } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أن هذا مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير : ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب .

المسألة الثانية : قوله { بالغيب } فيه وجهان : الأول : من يخافه حال إيمانه بالغيب كما ذكر ذلك في أول كتابه وهو قوله { يؤمنون بالغيب } الثاني : من يخاف بالغيب أي يخافه بإخلاص وتحقيق ولا يختلف الحال بسبب حضور أحد أو غيبته كما في حق المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم .

المسألة الثالثة : الباء في قوله { بالغيب } في محل النصب بالحال والمعنى من يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته ومثل هذا قوله { من خشي الرحمن بالغيب } { ويخشون ربهم بالغيب } وأما معنى الغيب فقد ذكرناه في قوله { الذين يؤمنون بالغيب } .

ثم قال تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } والمراد عذاب الآخرة والتعزيز في الدنيا قال ابن عباس : هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه . قال القفال : وهذا جائز لأن اسم العذاب قد يقع على الضرب كما سمى جلد الزانيين عذابا فقال { وليشهد عذابهما طائفة } وقال { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وقال حاكيا عن سليمان في الهدهد : { لأعذبنه عذابا شديدا } .