التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (94)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 94 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ( 1 ) يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ( 2 ) مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 95 ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( 3 ) وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 96 ) } ( 94 – 96 ) .

في الآيات :

( 1 ) تنبيه للمسلمين بأن الله قد يختبرهم في متناول أيديهم ورماحهم شيئا من الصيد حتى يظهر فعلا المؤمن المخلص الذي يخاف الله ويؤمن بالغيب ولو لم يره ، ويقف عند أوامره .

( 2 ) وإنذار للذين ينحرفون عند الاختبار ، ويعتدون حدود حرمات الله فإن لهم عنده عذابا أليما .

( 3 ) ونهي عن قتل الصيد في حالة الإحرام وتشريع الكفارة لمن يفعل ذلك . وهو تقريب قربان عند الكعبة من الأنعام معادل لما قتل ، أو إطعام بعض مساكين أو صيام بعض أيام تعادل ذلك ليشعر بهذا قاتل الصيد أنه اقترف محظورا وكفر عنه .

( 4 ) وإيذان بأن الله قد عفا عما سلف من ذلك ، وأن من عاد إليه فإنه يكون قد عرض نفسه لانتقام الله العزيز .

( 5 ) وخطاب تشريعي للمسلمين بأن الله تعالى قد أحل لهم صيد البحر وأكله على أن يتمتع بهذه الرخصة المسلمون على السواء المقيم منهم والمسافر ، وبأنه قد حرم عليهم صيد البر ما داموا حرما . وموعظة لهم فعليهم بتقوى الله الذي سيحشرون إليه ويقفون بين يديه .

تعليق على الآية :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . }

والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وما ورد

في صددها من أحاديث وشرح لمعنى الكعبة

وقد روى البغوي في سياق الآية الأولى : أنها نزلت عام الحديبية وكان المسلمون محرمين فابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم بكثرة فهموا بأخذها فنزلت . وروى أن الآية الثانية نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله . ولم نطلع على رواية في مناسبة حل صيد البحر وطعامه . وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولا في تفسير الطبري .

ويلحظ أن الآيات وحدة منسجمة شكلا وموضوعا . وأن فيها موضوعا لم يذكر في روايات النزول وهو حل صيد البحر وطعامه مما يجعلنا نرجح نزول الآيات دفعة واحدة . ولا يمنع هذا أن يكون وقع ما ذكرته الروايات فكان ذلك مناسبة لنزول الفصل ليكون تشريعا تاما في موضوع الصيد في حالة الحرم .

وقد لا تبدو صلة ظرفية بين هذا الفصل والآيات السابقة له . ولكن التناسب الموضوعي ملموح لأنه فصل تشريعي كسابقه وفيه تشريع فيما يؤول إلى الأكل وقصده هو الصيد . والمتبادر أن وضعه في مكانه بسبب ذلك إن لم يكن قد نزل بعد الآيات السابقة مباشرة .

ومع أننا لم نطلع على ما يفيد أن صيد البحر كان محظورا أو غير محظور في حالة الحرم قبل الإسلام ، فالذي نرجحه من مدى ومفهوم التقليد القديم في حظر الصيد المنبثق من حظر سفك الدم في حالة الإحرام أنه كان محظورا فاقتضت حكمة التنزيل إباحته ؛ ليكون ذلك تسهيلا للمسلمين عامة وللذين يأتون من المسافات البعيدة ويكون البحر طريقهم أو على طريقهم . وهذا يؤدي إلى القول أن المقصود من الجملة القرآنية إباحة صيد البحر وأكله في حالة الحرم كما هو المتبادر .

ولقد شرحنا مدى جملة : { وأنتم حرم } في سياق تفسير الآية الأولى من السورة . فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة .

ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية والأقوال المعزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في مدى ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها ونعلق عليها فيما يلي ( 1 ){[882]} :

1- هناك من قال : إن الكفارة إنما تجب على الذين يقتلون الصيد عمدا وهم ناسون أنهم في حالة الإحرام . فإذا لم يكونوا ناسين فلا يحكم عليهم بكفارة ؛ لأن ذنبهم أعظم من أن يكفر ويكونون موضع انتقام الله . وينحل إحرامهم ويبطل حجهم . وصرف القائلون جملة : { عفا الله عما سلف } إلى ما قبل نزول الآيات . وهناك من قال : إن الكفارة تصح لمن يقتل الصيد لأول مرة عمدا في حالة الإحرام ، ولو كان ذاكرا أنه في هذه الحالة . فمن كرر العمل فيغدو ذنبه أعظم من أن تكفره كفارة فلا يحكم عليه ويكون موضع انتقام الله . واتفقوا مع القول الأول بصرف العفو عما سلف إلى ما قبل نزول الآيات وقالوا : إن الكفارة لا تسقط ما أنذر الله به من العذاب في الآية الأولى لأنه خالفها . ونبهوا على أن على المحكمين أن يسألا الذي يحكمهما إن كان قتل صيدا عمدا قبل ذلك ، فإن قال : نعم رداه ولم يحكما ، وإن قال : لا . حكما . وقد صوب الطبري القول الثاني . وهو تصويب في محله إلا في أمر عدم سقوط ذنب الذي يقتل الصيد لأول مرة بالكفارة . فالكفارة ليست تعويضا لصاحب حق ، وإنما هي بمثابة توبة لله . والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات كما جاء في آية سورة الشورى ( 25 ) وهناك ذنوب أعظم تسقط بالتوبة فضلا عن الكفارة على ما مر شرحه في سياق الآيات ( 33 – 34 ) من هذه السورة وفي سياق بحث التوبة في سياق سورة الفرقان .

2- هناك من قال : إن ( أو ) هي للتخيير . فالحكمان العدلان يحكمان بما يعادل الصيد طعاما أو صياما أو هديا . والصائد يختار إحدى هذه الثلاث للتكفير .

وهناك من قال : إنها للترتيب فيجب الهدي أولا ، فإن لم يمكن الطعام فإن لم يمكن فالصيام . والنظم القرآني يتحمل كلا القولين . وإن كنا نميل إلى القول : إن على الميسور أن يقدم هديا إن وجد وقدر عليه ، وإلا فيطعم المساكين وإن لم يقدر فليصم ، وقد نبهوا على أن الهدي يذبح عند الكعبة . ويوزع لحمه على المساكين .

3- وقد بينوا الحدود التي يحسن أن يحكم الحكمان في نطاقها . فمن قتل حمار وحش أو بقرة وحش أو وعلا فعليه هدي بقرة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام عشرة أيام . ومن قتل غزالا أو أرنبا أو ضبا أو يربوعا فعليه شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ستة أيام . ومن قتل دون ذلك كعصفور أو سمان أو حمامة فلا يحكم عليه بهدي ؛ لأنه ليس في الأنعام ما يعادل ذلك ، وإن كان يستحب أن يقرب سخلة أو شاة . ويحكم عليه بطعام ثلاثة مساكين أو صيام ثلاثة أيام . والطعام قوت يوم كامل نصف صاع أو مد من بر أو تمر أو أكل جاهز .

4- ومما قالوه : إن الصيد يقوم بدراهم وهو حي ويشتري مما ند له من النعم إذا كان القاتل قادرا ولم يكن يملك ندا . وإن لم يجد ندا فيشتري بها حنطة أو تمر أو طعام ويوزع على المساكين . فإن لم يجد فيصوم مقابل ذلك أياما . وهناك من قال : إن صيام يوم يقابل ما قيمته نصف صاع أو مد . وهناك من قال : إن مقابل صيام اليوم ما قيمته صاع أو مد . والاختلاف في عدد الأصوع والأمداد هو بسبب اختلاف روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ترو في الصحاح . ومهما يكن من أمر فالمبدأ الذي احتوته هذه الفقرة هو تقويم الصيد بثمنه وهو حي وشراء ند له وتقريبه وإطعامه للمساكين إذا أمكن وشراء طعام أو حنطة أو تمر بالثمن وتوزيعه على المساكين إذا كان القاتل قادرا وصيام أيام عن كل ما قيمته صاع أو مد أو نصف صاع أو نصف مد يصح أن يكون مبدأ عاما يطبق في كل ظرف . والله أعلم .

5- وقد نبهوا على أن النهي هو في صدد ما يؤكل من الحيوان . وأباحوا قتل المؤذي منه في حالة الحرم استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى واحدا منها الخمسة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه : ( خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور ) . وفي رواية : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ) ( 1 ){[883]} . ولقد ألحق الفقهاء الوحوش الضارة والحيوانات الضارة الأخرى قياسا على هذه الأحاديث ، وهو وجيه .

6- وقد نبهوا إلى جواز أكل صيد البر للمحرم إذا لم يصده الآكل أو يصد له . استنادا إلى حديث رواه الإمام الشافعي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ) ( 2 ){[884]} . ولقد روى الخمسة عن ابن عباس قال : ( أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمار وحش وهو محرم فرده عليه وقال : لولا أنا محرمون لقبلناه منك ، وفي رواية : أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكله ، إنا حرم ) ( 3 ){[885]} . وقد فسر المفسرون هذا الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن هذا الصيد قد صيد له ليزيلوا التناقض بينه وبين الحديث السابق . وأوردوا بسبيل ذلك حديثا جاء فيه : ( إن عثمان بن عفان نزل مع ركب بالروحاء ، فقرب إليهم طير وهم محرمون فقال لهم عثمان : كلوا فإني غير آكله . فقال له عمرو بن العاص وكان معه : أتأمرنا بما لست آكلا . فقال : لولا أني أظن أنه صيد من أجلي لأكلت فأكل القوم ) ( 4 ){[886]} . وهناك حديث مؤيد لذلك رواه البخاري والنسائي عن أبي قتادة : ( أنه أصاب حمارا وحشيا وهو حلال ، فأتى به أصحابه وهم محرمون فأكلوا منه فقال بعضهم : لو سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فسألناه فقال : لقد أحسنتم . هل معكم منه شيء ؟ قلنا : نعم . قال : فأهدوا لنا ، فأتيناه منه فأكل منه وهو محرم ) ( 5 ){[887]} .

7- ونبهوا كذلك إلى أن صيد البحر وطعامه مباح للمحرم وغير المحرم . وسواء أخرج من الماء حيا أم ميتا . وكذلك ما قذفه البحر إلى الساحل . وما يقدد منه وما يملح . وجعلوا الأنهار في مثابة البحار في هذا الأمر . وبعضهم استثنى الضفادع والسرطانات ؛ لأنها ليست حيوانات بحرية تماما .

8- أما الحكمان ذوا العدل فلم نطلع على شيء في صددهما . والمتبادر أن الصائد هو الذي يختارهما من ذوي العدل والخبرة ليقدروا المسألة ويشيروا على الصائد برأيهم فيها . فهذه مسألة دينية وليست مسألة قضائية حقوقية بين متخاصمين حتى يصح أن يكون لولي أمر المسلمين دخل فيها . والله أعلم .

هذا ، وبمناسبة ورود كلمة الكعبة لأول مرة نقول : إن المفسرين قالوا : إنها سميت بذلك ؛ لأنها مربعة أو مرتفعة . وإنها من كعبت المرأة إذا نتأ ثديها أو ارتفع كما قالوا : إنها سميت بذلك لانفرادها عن البنيان ( 1 ){[888]} . وقد ينطوي في هذا المعنى الأول بشكل ما . ولقد أشير إليها في مواضع عديدة في السور السابقة المكية والمدينة باسم البيت والبيت الحرام والبيت العتيق ، وهو ما كان العرب يسمونها به قبل الإسلام . وكانوا يضعون فيها وحولها أصنامهم ويطوفون بها ويقيمون صلاتهم ويقربون قرابينهم عندها . والمأثور في الروايات العربية ( 2 ){[889]} : أنها لم تكن الوحيدة في جزيرة العرب ؛ حيث كان لبعض قبائل العرب كعبات للأغراض نفسها مع اعتبارها كعبة للعرب جميعهم . وحينما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وجد فيها وحولها 360 صنما ووجد على جدرانها صور إبراهيم وعيسى عليهما السلام ؛ حيث قد يدل هذا على أن العرب كانوا يعتبرونها كعبة عامة مشتركة ، ومنهم قبائل نصرانية أرادوا أن يؤيدوا ذلك بوضع نسخ من أصنامهم ومعبوداتهم فيها وحولها . ولقد ذكرنا في مناسبات سابقة ما ورد في صدد وجودها وبنائها فلا ضرورة للإعادة .


[882]:انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. والطبري عادته أكثرهم استيعابا وإسهابا.
[883]:التاج ج 2 ص 107.
[884]:المصدر نفسه.
[885]:المصدر نفسه ص 106.
[886]:تفسير الطبري.
[887]:التاج ج 3 ص 83.
[888]:تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
[889]:انظر العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 5 ص 75 وما بعدها. وانظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص 602 وما بعدها.