قوله تعالى : { قد كان لكم آية } . ولم يقل قد كانت ، والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان ، أي قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وقال الفراء : إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ، فذكر الفعل ، وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه ، فمعنى الآية : قد كان لكم آية : أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون .
قوله تعالى : { في فئتين } فرقتين ، وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض .
قوله تعالى : { التقتا } . يوم بدر .
قوله تعالى : { فئة تقاتل في سبيل الله } . طاعة الله ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار . وصاحب راية المهاجرين ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان ، فرس للمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة ، وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف .
قوله تعالى : { وأخرى كافرة } . أي فرقة أخرى كافرة ، وهم مشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة ، يرأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائة فرس ، وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { يرونهم مثليهم } قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء ، يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثلي المسلمين ، وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ، ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية ، وقرأ الآخرون بالياء ، واختلفوا في وجهه ، فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ، ثم له تأويلان : أحدهما : يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم ، فإن قيل كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ قيل : هذا مثل قول الرجل وعنده درهم ، أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم ، يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة والتأويل الثاني وهو الأصح : كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم ، قللهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ، ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ؛ ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم . قال ابن مسعود رضي الله عنه : حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال :أراهم مائة . قال بعضهم : الرؤية راجعة إلى المشركين ، يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم ، قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم الله في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترئوا ، فذلك قوله تعالى( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) قوله تعالى : { رأي العين } . أي في رأي العين ، نصب بنزع حرف الصفة .
قوله تعالى : { والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك } . الذي ذكرت .
قوله تعالى : { لعبرة لأولي الأبصار } . لذوي العقول ، وقيل لمن أبصر الجمعين .
الخطاب في قوله : { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :
فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .
وقوله { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة : الجماعة من الناس ، وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } في سورة البقرة .
والخطاب في { ترونهم } كالخطاب في قوله : { قد كان لكم } .
والرؤية هنا بصرية بقوله { رأي العين } والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : { ويقللكم في أعينهم } فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال { وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا } ويكون ضمير الغيبة في قوله { مثليهم } راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من { أخرى كافرة } ، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين . إن كان الراءون هم المشركون ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين . لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ، وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .
و { رأي العين } مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية . كيف والرأي اسم للعقل ، وتشار فيها رأى البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين . قال تعالى { إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.