فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } أي : علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم ، وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، وهي : من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله ، ولم يقل " كانت " ؛ لأن التأنيث غير حقيقي . وقال الفراء : إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه ، وبين الاسم بقوله : { لَكُمْ } . والمراد بالفئتين : المسلمون ، والمشركون لما اتقوا يوم بدر . قوله : { فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله } قراءة الجمهور برفع { فئة } . وقرأ الحسن ، ومجاهد «فئة » و«كافرة » بالخفض ، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي : إحداهما فئة . وقوله : { تقاتل } في محل رفع على الصفة ، والجرّ على البدل من قوله : { فِئَتَيْنِ } . وقوله : { وأخرى } أي : وفئة أخرى كافرة . وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما . قال ثعلب : هو على الحال ، أي : التقتا مختلفتين ، مؤمنة ، وكافرة . وقال الزجاج : النصب بتقدير أعني ؛ وسميت الجماعة من الناس فئة ؛ لأنه يفاء إليها : أي : يرجع إليها في وقت الشدة . وقال الزجاج : الفئة : الفرقة مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف : إذا قطعته ، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما : المقتتلتان في يوم بدر ، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب ، فقيل : المخاطب بها : المؤمنون . وقيل : اليهود . وفائدة الخطاب للمؤمنين : تثبيت نفوسهم ، وتشجيعها ، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين .

قوله : { يَرَوْنَهُمْ مثْلَيْهِمْ } قال أبو علي الفارسي : الرؤية في هذه الآية رؤية العين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، ويدل عليه قوله : { رَأْىَ العين } والمراد أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ، أو مثلي عدد المسلمين ، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية ، وقرأ نافع بالفوقية . وقوله : { مثْلَيْهِمْ } منتصب على الحال . وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون هم المؤمنون ، والمفعول هم الكفار . والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين ، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد ، وفيه بُعْد أن يكثر الله المشركين في أعين المؤمنين ، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين ، فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين ، فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم . وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، ويحتمل أن يكون الضمير في { مثليهم } للمسلمين ، أي : ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم ، وقد قال من ذهب إلى التفسير الأوّل - أعني : أن فاعل الرؤية المشركون ، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم - أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى :

{ وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] بل قللوا أوّلا في أعينهم ليلاقوهم ، ويجترئوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا . قوله : { رَأْىَ العين } مصدر مؤكد لقوله : { يَرَوْنَهُمْ } أي : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها { والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي : يقوّي من يشاء أن يقويه ، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في رؤية القليل كثيراً { لَعِبْرَةً } فعلة من العبور ، كالجلسة من الجلوس . والمراد الاتعاظ ، والتنكير للتعظيم ، أي : عبرة عظيمة ، وموعظة جسيمة .

/خ13