جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ }

يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك : قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } عبرة وتفكر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله ، إلا أنه قال : ومتفكّر { في فِئَتَيْنِ } يعني في فرقتين وحزبين . والفئة : الجماعة من الناس التقتا للحرب ، وإحدى الفئتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر ، والأخرى مشركو قريش ، فئة تقاتل في سبيل الله ، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش . كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ، { وأُخْرَى كافرَةٌ } فئة قريش الكفار .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { وأُخرَى كافرَةٌ } : قريش يوم بدر .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قال : في محمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال ذلك يوم بدر ، التقى المسلمون والكفار .

ورفعت { فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وقد قيل قبل ذلك في فئتين ، بمعنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله على الابتداء ، كما قال الشاعر :

فكنتُ كَذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** وَرِجْلٌ رَمَى فِيها الزّمانُ فَشَلّتِ

وكما قال ابن مفرغ :

فكنتُ كذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** ورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الحَدَثَانِ

فَأمّا التي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍ *** وَأمّا التي شَلّتْ فأزد عُمَانِ

وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه إذا كان مع المكرر خبر ترده على إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانية بالرفع ، وتنصبه في التام من الفعل والناقص ، وقد جُرّ ذلك كلّه ، فخفض على الرد على أول الكلام ، كأنه يعني إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلين كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة . وكذلك الخفض في قوله : «فئة » ، جائز على الرد على قوله : «في فئتين التقتا » ، في فئة تقاتل في سبيل الله . وهذا وإن كان جائزا في العربية ، فلا أستجيز القراءة به لإجماع الحجة من القراء على خلافه ، ولو كان قوله : «فئة » جاء نصبا كان جائزا أيضا على قوله : قد كان لكم آية في فئتين التقتا مختلفتين .

القول في تأويل قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } .

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء أهل المدينة : «ترونهم » بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرة ، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين . يريد بذلك عظتهم . يقول : إن لكم عبرة أيها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين ، وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر . فتأويل الاَية على قراءتهم : قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكّر في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم .

فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ، وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟ قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة ، رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قلّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، ثم قللها في حال أخرى ، فرأتها مثل عدد أنفسها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : هذا يوم بدر ، قال عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحدا ، وذلك قول الله عز وجل : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } .

فمعنى الاَية على هذا التأويل : قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة ، والأخرى كافرة ، كثير عدد الكافرة ، قليل عدد المسلمة ، ترى الفئة القليل عددها ، الكثير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد ، فهم يرونهم مثليهم ، فيكون أحد المثلين عند ذلك ، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الاَخر : الضعف الزائد على عددهم ، فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم¹ والمعنى الاَخر منه : التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود ، وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم ، فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } .

وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم هم المسلمون ، غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم ، لم يقللوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره . قالوا : ولذلك قال الله عز وجل لليهود : قد كان لكم فيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم ، مثل الذي حل بأهل بدر على أيديهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } . أنزلت في التخفيف يوم بدر ، فإنّ المؤمنين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئْتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين ، فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين .

وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر ، وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين ، فقال بعضهم : كان عددهم ألفا ، وقال بعضهم : ما بين التسعمائة إلى الألف . ذكر من قال كان عددهم ألفا :

حدثني هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي ، قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم رجل من قريش ، ومولى لعقبة بن أبي معيط¹ فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى عقبة ، فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديد بأسهم . فجعل المسلمون إذا قال ذلك صدّقوه ، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «كَمِ القَوْمُ ؟ » فقال : هم والله كثير شديد بأسهم . فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبرهم كم هم ، فأبى . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله : «كَمْ تَنْحَرُون مِنَ الجُزُرِ ؟ » قال : عشرة كل يوم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ ألْفٌ » .

حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال : أسرنا رجلاً منهم يعني من المشركين يوم بدر فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .

ذكر من قال : كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : ثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية من قريش فيها أسلم غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار غلام بني العاص ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : «كَمِ القَوْم ؟ » قالا : كثير . قال : «ما عِدّتُهُمْ ؟ » قالا : لا ندري . قال : «كَمْ تَنْحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ ؟ » قالا : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ مَا بَيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلى الألْفِ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فَئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رأيَ العَيْنِ } ذلكم يوم بدر ألف المشركون ، أو قاربوا ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ } إلى قوله : { رأيَ العَيْنِ } قال : يضعفون عليهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الألف .

فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر . فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود أولى بتأويل الاَية .

وقال آخرون : كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة ، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد ، وقالوا : أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلاً آية للمسلمين . قالوا : وإنما عنى الله عز وجل بقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } المخاطبين بقوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قالوا : وهم اليهود غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى ، كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } .

وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين ؟ قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : أحتاج إلى مثله ، أنا محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : أحتاج إلى مثليه ، فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل ، وكما يقول الرجل : معي ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو محتاج إلى ثلاثة¹ فلما نوى أن يكون الألف داخلاً في معنى المثل ، صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة ، قال : ومثله في الكلام : أراكم مثلكم ، كما يقال : إن لكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم ، يعني أراكم ضعفيكم ، قالوا : فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم . وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } فأخبر أن كلاً من الطائفتين قُلل عددهم في مرأى الأخرى .

وقرأ آخرون ذلك : «تُرَوْنَهم » بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم .

( وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ : { يَرَوْنَهُمْ } بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلي عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حزرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، ثم تقليلاً ثالثا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين . ) كما :

حدثني أبو سعيد البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا كم كنتم ؟ قال : ألفا .

وقد رُوي عن قتادة أنه كان يقول : لو كانت «تُرونهم » ، لكانت «مثليكم » .

حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن المعرك ، عن معمر ، عن قتادة بذلك .

ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذٍ عدد المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين اليهود على ما كان به عندهم ، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين ، إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدرهم .

وأما قوله : { رأيَ العَيْنِ } فإنه مصدر رأيته ، يقال : رأيته رَأْيا ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيَا حسنة غير مُجْراة ، يقال : هو مني رأي العين ورأي العين بالنصب والرفع ، يراد حيث يقع عليه بصري ، وهو من الرائي مثله ، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا . فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم ، وتراهم عيونهم مثليهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } .

يعني بقوله جل ثناؤه : { واللّهُ يُوءَيّد } : يقوّي بنصره من يشاء ، من قول القائل : قد أيدت فلانا بكذا : إذا قويته وأعنته ، فأنا أؤيده تأييدا ، و«فعلت » منه : إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول الله عز وجل : { وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ } يعني ذا القوة .

وتأويل الكلام : قد كان لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا : إحداهما تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم ، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم ، على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر ، والله يقوي بنصره من يشاء . وقال جل ثناؤه : إن في ذلك : يعني إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددهم ، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها { لَعِبْرَةً } يعني لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .