ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك : كيف نغلب{[15206]} وما هم فينا إلا{[15207]} كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ؟{[15208]} قيل لهم : إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو{[15209]} طول عهد فإنه { قد كان لكم آية } أي عظيمة بدلالة تذكير كان { في فئتين } تثنية{[15210]} فئة{[15211]} للطائفة{[15212]} التي{[15213]} يفيء إليها{[15214]} أي يرجع من يستعظم شيئاً ، استناداً{[15215]} إليها حماية بها لقوتها ومنعتها{[15216]} { التقتا } أي في بدر { فئة } أي منهما{[15217]} مؤمنة ، لما يرشد إليه قوله : { تقاتل في سبيل الله } أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا ، ومن كان كذلك{[15218]} لم يكن قطعاً إلا{[15219]} مؤمناً { وأخرى } أي منهما{[15220]} { كافرة } أي تقاتل في سبيل الشيطان ، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك ، وهو أن يؤتى بكلامين يحذف{[15221]} من كل منهما شيء{[15222]} إيجازاً ، يدل{[15223]} ما ذكر من كل على ما{[15224]} حذف من{[15225]} الآخر ، وبعبارة أخرى : هو أن يحذف من كل جملة شيء{[15226]} إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه .
ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله{[15227]} : { يرونهم } وضمن{[15228]} يرى البصيرية{[15229]} القاصرة{[15230]} على مفعول واحد فعل الظن ، وانتزع{[15231]} منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير : ظانيهم { مثليهم } فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى : ترون{[15232]} {[15233]} أيها المخاطبون{[15234]} الكفار المقاتلين{[15235]} للمؤمنين ، وعلى قراءة غيره بالغيب{[15236]} المعنى ، يرى{[15237]} المسلمون الكفار مثلي المسلمين { رأي العين } أي بالحزر{[15238]} والتخمين ، لا بحقيقة العدد ، هذا أقل ما يجوزونه فيهم ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم{[15239]} ومع ذلك{[15240]} فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم{[15241]} عليهم ، أو يرى الكفار{[15242]} المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم ، كما هو المشهور{[15243]} في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب{[15244]} الأعداء فينهزموا ، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي : لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر{[15245]} والإيمان الباطن ، فكان كل واحد منهم{[15246]} بما{[15247]} هو مسلم{[15248]} ذاتاً ، وبما هو مؤمن ذاتاً ، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً{ فإن{[15249]} يكن{[15250]} منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين{[15251]} }[ الأنفال :66 ] وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين ، لا ذات قلب له ، فكان المؤمن ضعفه ، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي{[15252]} عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم ، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود{[15253]} الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة ، وأما بالحقيقة فإن التام{[15254]} الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة{[15255]} عشر تام نظير موجود الوجود{[15256]} الكامل ، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين{[15257]} }[ الأنفال :65 ] انتهى{[15258]} . وهذا التقليل{[15259]} والتكثير واقع بحسب أول القتال{[15260]} وآخره ، وقبل{[15261]} اللقاء وبعده ، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما{[15262]} في آية الأنفال ، والمعنى : إنا فاعلون بكم{[15263]} أيها الكفارعلى أيديهم ما فعلناه بأولئك ، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم ، فلم تغن عنهم{[15264]} {[15265]} كثرتهم شيئاً{[15266]} ، ولا شدة {[15267]}شكيمتهم ونخوتهم{[15268]} فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم{[15269]}{ قل{[15270]} لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث{[15271]} }[ المائدة :100 ] .
ولما كان التقدير : فنصر{[15272]} الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له الأمر كله { يؤيد } والأيد تضعيف القوة الباطنة { بنصره } قال الحرالي : والنصر لا يكون إلا لمحق{[15273]} ، وإنما يكون لغير المحق{[15274]} الظفر والانتقام انتهى . { من يشاء } أي فلا عجب فيه في التحقيق ، فلذلك اتصل به قوله : { إن في ذلك } أي الأمر الباهر{[15275]} ، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو{[15276]} الآية { لعبرة } قال : هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى ، ومن علم أدنى إلى علم أعلى ، ففي لفظها بشرى بما ينالون{[15277]} من ورائها مما{[15278]} هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة{[15279]} الخاتمة التي{[15280]} عندها تضع الحرب أوزارها ، حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ{[15281]} ونظر جامع{[15282]} بين البداية والخاتمة
{ كما بدأنا أول خلق نعيده{[15283]} }[ الأنبياء : 104 ] - انتهى . { لأولي الأبصار * } أي يصيرون{[15284]} بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار . قال الحرالي : أول موقع العين على الصورة{[15285]} نظر ، ومعرفة{[15286]} خبرتها الحسية بصر ، ونفوذه{[15287]} إلى حقيقتها رؤية ، فالبصر{[15288]} متوسط بين النظر والرؤية كما قال سبحانه وتعالى :{ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون{[15289]} }[ الأعراف : 198 ] فالعبرة هي المرتبة{[15290]} الأولى{[15291]} {[15292]}لأولي الأبصار{[15293]} الذين يبصرون الأواخر بالأوائل ، فأعظم{[15294]} غلبة{[15295]} بطشه في الابتداء غلبة{[15296]} بدر{[15297]} ، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب{[15298]} وراءها ، التي تكون بالشام في آخر الزمان - انتهى .