الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

{ قَدْ كَانَ } ولم يقل كانت ؛ لأنّ ( آية ) تأنيهثا غير حقيقي ، وقيل : ردّها ] الى البيان أي : قد كان لكم بيان فذهبَ الى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس :

برهرهة رأدة رخصة *** كخر عوبة البانة المنقطر

ولم يقل المنقطرة ؛ لأنَّه ذهب الى القضيب ، وقال الفراء : ذكَّره ؛ لأنَّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكَّر الفعل وأنَّثه :

إنَّ أمرؤاً غرَّه منكره واحدة بعدي *** وبعدك في الدنيا لمغرورُ

وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو ، فهذا وجهه ، فمعنى الآية { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } : أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم ستغلبون .

{ فِي فِئَتَيْنِ } : فرقتين وجماعتين وأصلها في الحرب من بعضهم بقى الى بعض . { الْتَقَتَا } يوم بدر .

{ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } : طاعة لله وهم رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم وأصحابه ، وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، على عدَّة أصحاب طالوت الَّذين جازوا معه النهر وما جازَ معه إلاّ مؤمن ، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ومئتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار .

وكان صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم والمبارزين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكانت الإبل في جيش النبي صلى الله عليه وسلم سبعين بعيراً والخيل فرسين : فرس للمقداد بن عمر الكندي ، وفَرسْ لمرثد بن أبي فهد العنزي ، وكان معهم من السلاح : ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار .

{ وَأُخْرَى } وفرقة أخرى { كَافِرَةٌ } : وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً مقاتلاً وكانت خيلهم مائة فرس ، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وكان سبب ذلك أعين بن سفين ، واختلف القرَّاء في هذه الآية ، قرأها منهم { فِئَةٌ } بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة .

وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين .

وقرأ ابن السميقع : فما ، على المدح .

وقرأ مجاهد : تقاتل بالياء ردَّه الى القوم وجهان على لفظه ، وقرأ الباقون بالتاء .

{ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء وإختاره أبو حاتم ، الباقون بالياء ، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترونَ يا معشر اليهود والكفار أهل مكَّة مثلي المسلمين .

ومن قرأ بالياء فأختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين ، ثم له تأويلان أحدهما : ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد ، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فالجواب أن يقول : هذا مثل وعندك عبدٌ محتاج إليه وإلى مثله ، إحتاج الى مثلَيه فأنت محتاج الى ثلاثة ، ويقول : معي ألف وأحتاج الى مثليه فأنت محتاجٌ الى ثلاثة آلاف ، فإذا نويت أن يكون الألف داخلاً في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة .

قاله الفرَّاء : التأويل الآخر أن معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم اللّه في أعينهم حتى رأتها ستمائة وستة وعشرون ، وكانوا ثلاثة أمثالهم تسعمائة وخمسين ، ثم قلّلهم في أعينهم في حالة أخرى حتى رأتها مثل عدد أنفسهم .

قال ابن مسعود : في هذه الآية نظرنا الى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحداً ، ثم قللهم اللّه في أعينهم حتى رأتهم عدداً يسيراً أقل عدداً من أنفسهم .

وقال ابن مسعود أيضاً : لقد قلَّلوا في أعُيننا يوم بدر حتى قلت لرجُل الى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً ، وقال بعضهم : الروية راجعة الى المشركين يعني : يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلَّلهم اللّه في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤا عليهم ولا ينصرفوا ، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله :

{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } [ الأنفال : 44 ] الآية .

محمَّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال : كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمَّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم ؟ قالوا : ثلاثمائة وبضعة عشرة ، قالوا : ما كنَّا نراكم إلاّ تضاعفون علينا ، قال : وذلك ممَّا نصر به المسلمون .

وقرأ السلمي { يَرَوْنَهُمْ } بضم الياء على مالم يسمي فاعله وإنْ شئت على معنى الظن .

{ رَأْيَ الْعَيْنِ } أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين ، أي : في نظر العين يقال : رأيت الشيء رأياً ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلاّ أنَّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر .

وقال الأعشى :

فلما رأى لا قوم من ساعة *** من الرأي ما أبصروه وما أكتمن

{ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ } : يقوي { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلِكَ } : التي ذكرت { لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } : لذوي العقول ، وقيل : لمن أبصر الجمعين .