التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( 10 ) كَدَأْبِ ( 1 ) آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 11 ) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 12 ) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ ( 13 ) } [ 10 13 ] .

عبارة الآيات واضحة . وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق . وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله ؛ حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته . وفي الثانيتين أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا . وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر .

تعليق على الآية

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( 10 ) }

والآيات الثلاث التالية لها

وقد روى المفسرون{[408]} روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات . منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس والفتنة ، ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب . ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير . ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش ؛ حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر . ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين : إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب ، وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس .

وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح . وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش ، وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار . وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود . وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار . وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية . فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة . غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [ 55 59 ] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع ، وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها . فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع ، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ . ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول : إنها نزلت بعدها إلا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا . وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة . وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم . وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر .

والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا . إلا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة . ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران . وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا ، فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا . وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض ، ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها . وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم .

وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة { يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين . وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال .

وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله ، وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنة الله في الذين قبلهم . وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم . وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سورة مكية ومدنية . وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني .


[408]:انظر الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن إلخ.