معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

قوله تعالى : { قد كان لكم آية } . ولم يقل قد كانت ، والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان ، أي قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وقال الفراء : إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ، فذكر الفعل ، وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه ، فمعنى الآية : قد كان لكم آية : أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون .

قوله تعالى : { في فئتين } فرقتين ، وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض .

قوله تعالى : { التقتا } . يوم بدر .

قوله تعالى : { فئة تقاتل في سبيل الله } . طاعة الله ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار . وصاحب راية المهاجرين ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان ، فرس للمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة ، وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف .

قوله تعالى : { وأخرى كافرة } . أي فرقة أخرى كافرة ، وهم مشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة ، يرأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائة فرس ، وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { يرونهم مثليهم } قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء ، يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثلي المسلمين ، وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ، ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية ، وقرأ الآخرون بالياء ، واختلفوا في وجهه ، فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ، ثم له تأويلان : أحدهما : يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم ، فإن قيل كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ قيل : هذا مثل قول الرجل وعنده درهم ، أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم ، يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة والتأويل الثاني وهو الأصح : كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم ، قللهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ، ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ؛ ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم . قال ابن مسعود رضي الله عنه : حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال :أراهم مائة . قال بعضهم : الرؤية راجعة إلى المشركين ، يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم ، قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم الله في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترئوا ، فذلك قوله تعالى( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) قوله تعالى : { رأي العين } . أي في رأي العين ، نصب بنزع حرف الصفة .

قوله تعالى : { والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك } . الذي ذكرت .

قوله تعالى : { لعبرة لأولي الأبصار } . لذوي العقول ، وقيل لمن أبصر الجمعين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

وقوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله{[2984]} ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ «ترونهم » بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في «ترونهم » تجمع المشركين ، وفي «مثلهم » لجميع المؤمنين{[2985]} ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً ، فلذلك ترك في العبارةضرب من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و { مثليهم } نصب على الحال من الهاء والميم في { ترونهم } وأجمع الناس على الفاعل ب { ترونهم } المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف{[2986]} ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر ، فكان الكفار ثلاثةاثلاث من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب{[2987]} وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف{[2988]} ، وقوله تعالى : { لكم آية } يريد علامة وأمارة ومعتبراً ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس «فئةٌ تقاتل » برفع «فئةٌ » على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : : فئةٍ «بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع » كافرةٌ «ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : » فئةً «بالنصب وكذلك » كافرة «قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و { رأي العين } نصب على المصدر ، و { ويؤيد } معناه يقوي من الأيد وهو القوة .


[2984]:- الحديث المشار إليه ذكره ابن الأثير في النهاية (2/ 341) لغرابته، وورد في مادة (دعر) من لسان العرب أنه لعلي بن أبي طالب، وأنه أراد بهم قطاع الطرق، والأمنة بفتحات هي: سكون النفس وطمأنينتها.
[2985]:- ما بين معقفين سقط في بعض النسخ.
[2986]:- يشير بهذا إلى ما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال: كثير، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قال: يوما تسعا، ويوما عشرا، قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ القوم ما بين تسعمائة إلى ألف (ابن كثير. 350/1).
[2987]:- هو من أولاد أبي طالب وأكبر سنا من أخيه عقيل بعشر سنين، أتى غزوة بدر فوقعت بينه وبين بعض القرشين محاورة فرجع إلى مكة مع من رجع فأنشأ يقول: لا هم إما يغزون طـالب في عصبة مخالف محارب في مقنب من هذه المقانب فليكن المسلوب غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب "سيرة ابن هشام 451/2" وَالمِقْنَبُ: جماعة من الفرسان والخيل دون المائة تجتمع للغارة، وجمعه: مقانب
[2988]:- أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود (مجمع الزوائد: 6/75)، وروى أبو إسحاق السبيعي عن جارية عن علي قال: كانوا ألفا، وكذلك قال ابن مسعود، ولكن المشهور أنهم كانوا بين التسعمائة إلى الألف، وهو ما يؤيده الحديث الذي رواه ابن إسحاق عن ابن رومان عن عروة.