قوله تعالى : { ثم أنزل عليكم } . يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { من بعد الغم أمنةً } . يعني أمناً ، والأمن والأمنة بمعنى واحد ، وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف ، والأمنة مع بقاء سبب الخوف ، وكان سبب الخوف هنا قائماً .
قوله تعالى : { نعاساً } . بدل من الأمنة .
قوله تعالى : { يغشى طائفة منكم } . قرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء رداً إلى الأمنة ، وقرأ الآخرون بالياء رداً إلى النعاس . قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم ، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، أنا حسن بن محمد أخبرنا شيبان عن قتادة ، أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه . وقال ثابت عن انس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس . وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الحرب ، أرسل الله علينا النوم ، والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم ، يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ، فذلك قوله تعالى ( يغشى طائفةً منكم ) . يعني المؤمنين .
قوله تعالى : { وطائفةً قد أهمتهم أنفسهم } . يعني المنافقين : قيل : أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين ، فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ، ولم يوقع على المنافقين ، فبقوا في الخوف ( قد أهمتهم أنفسهم ) أي حملتهم على الهم يقال : أمر مهم .
قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق } . أي لا ينصر محمداً ، وقيل : ظنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل .
قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق } . أي لا ينصر محمدا ، وقيل :ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل . قوله تعالى : { ظن أهل الجاهلية } . أي كظن أهل الجاهلية والشرك .
قوله تعالى : { يقولون هل لنا } . مالنا لفظه استفهام ومعناه جحد .
قوله تعالى : { من الأمر من شيء } . يعني النصر .
قوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } . قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في لله . وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل : على النعت .
قوله تعالى : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } . وذلك أن المنافقين ، قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة . ولم يقتل رؤساؤنا . وقيل : لو كنا على الحق ما قتلنا ها هنا . قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) ، يعني التكذيب بالقدر وهو قولهم : ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) .
قوله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب } . قضي .
قوله تعالى : { عليهم القتل إلى مضاجعهم } . مصارعهم .
قوله تعالى : { و ليبتلي الله } . وليمتحن الله .
قوله تعالى : { ما في صدوركم وليمحص } . يخرج ويظهر .
قوله تعالى : { ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور } . بما في القلوب من خير وشر .
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين ، فغشي أهل الإخلاص ، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه : اذهب فانظر إلى القوم ، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون{[3625]} إلى المدينة ، فاتقوا الله واصبروا{[3626]} ، ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع ، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله عليهم النعاس ، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية ، قال أبو طلحة : لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مراراً{[3627]} ، وقال الزبير بن عوام : لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته{[3628]} ، وقال ابن مسعود : نعسنا يوم -أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وقرأ جمهور الناس «أمَنة » بفتح الميم ، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمْنة » بسكون الميم ، وهما بمعنى الأمن ، وفتح الميم أفصح ، وقوله : { نعاساً } بدل ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي » بالياء حملاً على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل ، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى » بالتاء حملاً على لفظ - الأمنة - بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل{[3629]} منه ، والواو في قوله تعالى : { وطائفة قد أهمتهم } هي واو الحال كما تقول : جئت وزيد قائم ، قاله سيبويه وغيره قال الزجاج : وجائز أن يكون خبر قوله { وطائفة } قوله - يظنون - ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة ، وقوله تعالى : { قد أهمتهم أنفسهم } ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم : إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة ، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال ، تقول العرب : أهمني الشيء إذا جلب الهم ، وذكر بعض المفسرين : أن اللفظة من قولك : هم بالشيء يهم إذا أراد فعله .
قال القاضي أبو محمد : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ، ونبذ الدين ، وهذا قول من قال : قد قتل محمد ، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال .
{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قَلْ لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدوُرِ }
قوله تعالى : { غير الحق } معناه : يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب ، وقوله : { ظن الجاهلية } ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، وهذا كما قال : { حمية الجاهلية } و { تبرج الجاهلية }{[3630]} ، وكما تقول شعر الجاهلية ، وكما قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً ، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، والأمر محتمل ، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري{[3631]} ، وقوله تعالى : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } حكاية كلام قالوه ، قال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبي بن سلول : قتل بنو الخزرج فقال : «وهل لنا من الأمر من شيء » ؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا ، وهذا منهم قول بأجلين ، وكان كلامهم يحتمل الكفر والنفاق ، على معنى : ليس لنا من أمر الله شيء ، ولا نحن على حق في اتباع محمد ، ذكره المهدوي وابن فورك ، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد{[3632]} ، وقوله تعالى : { قل إن الأمر كله لله } اعتراض أثناء الكلام فصيح ، وقرأ جمهور القراء «كلَّه » - بالنصب على تأكيد الأمر ، لأن «كله » بمعنى أجمع ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلُّه لله » برفع كل على الابتداء والخبر ، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل »{[3633]} ، وقوله تعالى : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } يحتمل أن يكون إخباراً عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة ، ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات ، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين ، وهذه كانت سنته في المنافقين ، لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق ، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير{[3634]} أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .
قال القاضي أبو محمد : وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي ، ومعتب هذا ممن شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وقال ابن عبد البر{[3635]} : إنه شهد العقبة ، وذلك وهم ، والصحيح أنه لم يشهد عقبة ، وقوله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم } الآية رد على الأقوال ، وإعلام بأن أجل كل امرىء إنما هو واحد ، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى ، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل{[3636]} ، وقرأ جمهور الناس «في بُيوتكم » بضم الباء ، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بِيوتكم » ، بكسر الباء ، وقرأ جمهور الناس «لَبَرَز » بفتح الراء والباء على معنى : صاروا في البراز من الأرض ، وقرأ أبو حيوة «لبُرِّز » بضم الباء وكسر الراء وشدها ، وقرأ جمهور الناس : «عليهم القَتل » أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره ، وقرأ الحسن والزهري : «عليهم القتال » وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم ، وقوله تعالى : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } الآية ، اللام في قوله تعالى : { وليبتلي } متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار ، والتمحيص : تخليص الشيء من غيره ، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً ، و { ذات الصدور } ما تنطوي عليه من المعتقدات ، هذا هو المراد في هذه الآية .