فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يطنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شئ قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور154

( ثم انزل عليكم ) يا معشر المسلمين ( من بعد الغم ) التصريح بالبعدية مع دلالة ثم عليها وعلى التراخي لزيادة البيان وتذكير عظم النعمة ( أمنة ) الأمنة والأمن سواء ، وقيل الأمنة إنما تكون مع بقاء أسباب الخوف والأمن مع عدمه وكان سبب الخوف بعد باقيا ( نعاسا ) وهو أخف من النوم بدل كل أو اشتمال ، واختاره السمين .

( يغشى طائفة منكم ) قال ابن عباس إنما ينعس من يأمن ، والخائف لا ينام ، والطائفة تطلق على الواحد والجماعة ، وهذه الطائفة هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر ، والطائفة الآتية هم معتب بن قشير وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وجعلوا يتأسفون على الحضور ، ويقولون الأقاويل .

وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه فذلك قوله يعني هذه الآية{[381]} .

( وعن الزبير بن العوام قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من احد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس وتلا هذه الآية .

( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) حملتهم على الهم ، أهمني الأمر أقلقني وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال أو مستأنفة ، وقيل إن المعنى صارت أنفسهم همهم لا هم لهم غيرها فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي وأصحابه فلم يناموا وهم المنافقون ، وفي إلقاء النعاس على المؤمنين دون المنافقين آية عظيمة ومعجزة باهرة لأن النعاس كان سبب امن المؤمنين وعدم النعاس عن المنافقين كان سبب خوفهم .

( يظنون بالله ) أي في الله أي في حكمه والجملة استئناف على وجه البيان لما قبله ظنا

( غير الحق ) الذي يجب أن يظن به وهو ظنهم أن امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطل ، وأنه لا ينصر ولا يتم ما دعا إليه من دين الحق ( ظن الجاهلية ) بدل من غير الحق وهو الظن المختص بملة الجاهلية ، قاله القاضي فهو من إضافة الموصوف إلى مصدر الصفة أو من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية وأهل الشرك قاله التفتازاني .

( يقولون ) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( هل لنا من المر من شئ ) أي من أمر نصيب ، وهذا الاستفهام معناه الجحد أي ما لنا شئ من المر وهو النصر والاستظهار على العدو . وقيل هو الخروج أي إنما خرجنا مكرهين فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله .

( قل إن الأمر كله لله ) وليس لكم ولا لغيركم منه شئ فالنصر بيده والظفر منه ( يخفون ) أي يضمرون ( في أنفسهم ) ويقولون فيما بينهم بطريق الخفية ( ما لا يبدون لك ) من الكفر والشرك والشك في وعد الله ، وقيل يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين ، وقيل النفاق ، بل يسألونك سؤال المسترشدين . والجملة حال .

( يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ) استئناف على وجه البيان له ، أو بدل من يخفون والأول أجود كما في الكشاف ( ما قتلنا ههنا ) أي ما قتل من قتل منا في هذه المعركة ، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله ( قل لو كنتم ) قاعدين ( في بيوتكم ) بالمدينة كما تقولون ( لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) أي لم يكن بد من خروج من كتب عليه القتل في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها فإن قضاء الله لا يرد وحكمه لا يعقب .

و فيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل بل عين مكانه أيضا ، ولا ريب في تعين زمانه أيضا لقوله ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ) .

( وليبتلي الله ) علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي أي ليمتحن ( ما في صدوركم ) أي قلوبكم من الإخلاص والنفاق ( وليمحص ) أي يميز ( ما في قلوبكم ) من وساوس الشيطان ( والله عليم بذات الصدور ) يعني بالأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر الخفية التي لاتكاد تفارق الصدور ، بل تلازمها وتصاحبها لأنه عالم بجميع المعلومات .


[381]:ابن كثير 1/418.