مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم . عن أبي طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه . والأمنة الأمن ، و«نعاساً » بدل من «أمنة » أو هو مفعول و«أمنة » حال منه مقدمة عليه نحو «رأيت راكباً رجلاً » والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن ، ويجوز أن يكون «أمنة » مفعولاً له أو حالاً من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة { يغشى } يعني النعاس .

«تغشى » بالتاء والإمالة : حمزة وعلي أي الأمنة { طَائِفَةٌ مّنكُمْ } هم أهل الصدق واليقين { وَطَائِفَةٌ } هم المنافقون { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ما يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها لا همّ الدين ولا همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين رضوان الله عليهم { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق } في حكم المصدر أي يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به وهو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم { ظَنَّ الجاهلية } بدل منه والمراد الظن المختص بالملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء } هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط يعنون النصر والغلبة على العدو { قُلْ إِنَّ الأمر } أي النصر والغلبة { كُلُّهُ لِلهِ } ولأوليائه المؤمنين { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] «كله » تأكيد للأمر و«لله » خبر «أن » «كله » بصري وهو مبتدأ و«لله » خبره والجملة خبر «إن » { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } خوفاً من السيف { يَقُولُونَ } في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم «إن الأمر كله لله » { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا } أي لو كان الأمر كما قال محمد " إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون " لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة . «قد أهمتهم » صفة ل «طائفة » و«يظنون » خبر ل «طائفة » أو صفة أخرى ، أو حال أي قد أهمتهم أنفسهم ظانين . و«يقولون » بدل من «يظنون » و«يخفون » حال من «يقولون » و«قل إن الأمر كله لله » اعتراض بين الحال وذي الحال و«يقولون » بدل من «يخفون » أو استئناف { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } أي من علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة وكتب ذلك في اللوح لم يكن به من وجوده ، فلو قعدتم في بيوتكم { لَبَرَزَ } من بينكم { الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون ، والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك .

أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بخفياتها .