مكية إلا آيتين من قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . وهي اثنتان وخمسون آية
{ الر } أي : هذا كتاب { أنزلناه إليك } ، يا محمد يعني : القرآن ، { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } أي : لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان ، { بإذن ربهم } ، بأمر ربهم . وقيل : بعلم ربهم . { إلى صراط العزيز الحميد } أي : إلى دينه ، و{ العزيز } ، هو الغالب ، و{ الحميد } : هو المستحق للحمد .
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور .
{ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ } أي : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن العظيم ، الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء ، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض ، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم{[15736]} .
{ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب ؛ لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ، كما قال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } الآية[ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }
وقوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : هو الهادي لمن قَدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ } أي : العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، " الحميد " أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، وشرعه وأمره ونهيه ، الصادق في خبره .
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى : { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
قال أبو جعفر الطبري : قد تقدم منا البيان عن معنى قوله : الر فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فإن معناه : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد يعني القرآن ، لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ يقول : لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه ، وتبصّر به أهل الجهل والعمّى سبل الرشاد والهُدى .
وقوله : بإذْنِ رَبّهِمْ يعني : بتوفيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم . إلى صراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ يعني : إلى طريق الله المستقيم ، وهو دينه الذي ارتضاه وشرعه لخلقه . والحميد : فعيل ، صُرف من مفعول إلى فعيل ، ومعناه : المحمود بآلائه ، وأضاف تعالى ذكره إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لهم بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو الهادي خلقه والموفّق من أحبّ منهم للإيمان ، إذ كان منه دعاؤهم إليه ، وتعريفهم ما لهم فيه وعليهم ، فبين بذلك صحة قول أهل الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كسبا ، وإلى الله جلّ ثناؤه إنشاءً وتدبيرا ، وفساد قول أهل القدر الذين أنكروا أن يكون لله في ذلك صنع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ : أي من الضلالة إلى الهُدى .
{ آلر كتاب } أي هو كتاب . { أنزلناه إليك لتُخرج الناس } بدعائك إياهم إلى ما تضمنه . { من الظلمات } من أنواع الضلال . { إلى النور } إلى الهدى . { بإذن ربهم } بتوفيقه وتسهيله مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وهو صلة { لتخرج } أو حال من فاعله أو مفعوله . { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله : { إلى النور } بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه ، وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله .
هذه السورة مكية إلا آيتين{[1]} ، وهي{[2]} قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا } إلى آخر الآيتين ، ذكره مكي ، والنقاش .
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور والاختلاف في ذلك .
و { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب ، وهذا على أكثر الأقوال في الحروف المقطعة ، وأما من قال فيها ، إنها كناية عن حروف المعجم ، ف { كتاب } مرتفع بقوله : { الر } أي هذه الحروف كتاب أنزلناه إليك{[6994]} وقوله : { أنزلناه } في موضع الصفة للكتاب .
قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما : إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام .
وقوله : { لتخرج } أسند الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار ، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية . وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه السلام .
وعم { الناس } إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق ، ثبت ذلك بآيات القرآن التي اقترن بها ما نقل تواتراً من دعوته العالم كله ، ومن بعثته إلى الأحمر والأسود علم الصحابة ذلك مشاهدة ، ونقل عنهم تواتراً ، فعلم قطعاً والحمد لله .
واستعير { الظلمات } للكفر ، و { النور } للإيمان ، تشبيهاً .
وقوله : { بإذن ربهم } ، أي بعلمه وقضائه به وتمكينه لهم . .
و { إلى } في قوله : { إلى صراط } بدل من الأولى في قوله : { إلى النور }{[6995]} أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته ، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات .
و { العزيز الحميد } صفتان لائقتان بهذا الموضع ، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب ، وما في ضمن ذلك من القدرة ، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم .