{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى ، { والمشركين } وهم عبدة الأوثان ، { منفكين } زائلين منفصلين ، يقال : فككت الشيء فانفك ، أي : انفصل ، { حتى تأتيهم البينة } لفظه مستقبل ومعناه الماضي ، أي : حتى أتتهم الحجة الواضحة ، يعني : محمد صلى الله عليه وسلم ، أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالاتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإسلام والإيمان . فهذه الآية فيمن آمن من الفريقين ، أخبر أنهم لم ينتهوا عن الكفر حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، فأنقذهم الله من الجهل والضلالة .
وهي مكية في قول يحيي بن سلام ، ومدنية في قول ابن عباس والجمهور . وهي تسع{[1]} آيات .
وقد جاء في فضلها حديث لا يصح ، رويناه عن محمد بن محمد بن عبد اللّه الحضرمي قال : قال لي أبو عبد الرحمن بن نمير : اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب ، فاكتب عنه فإنه قد كتب ، فذهب إليه ، فقال : حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه : " لو يعلم الناس ما في { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } لعطلوا الأهل والمال ، فتعلموها " فقال رجل من خزاعة : وما فيها من الأجر يا رسول اللّه ؟ قال : " لا يقرؤها منافق أبدا ، ولا عبد في قلبه شك في اللّه . واللّه إن الملائكة المقربين يقرؤونها منذ{[2]} خلق اللّه السموات والأرض ما يفترون من قراءتها . وما من عبد يقرؤها إلا بعث اللّه إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ، ويدعون له بالمغفرة والرحمة " . قال الحضرمي : فجئت إلى أبي عبد الرحمن بن نمير ، فألقيت هذا الحديث عليه ، فقال : هذا قد كفانا مؤونته ، فلا تعد إليه . قال ابن العربي : " روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في ( لم يكن الذين كفروا ) لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها{[3]} ) . حديث باطل ، وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بن كعب : " إن اللّه أمرني أن اقرأ عليك " لم يكن الذين كفروا " قال : وسماني لك ؟ قال : " نعم " ، فبكى " .
قلت : خرجه البخاري ومسلم . وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم . قال بعضهم : إنما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبيّ ، ليعلم الناس التواضع ؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة . وقيل : لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأراد بقراءته عليه ، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه ، ويعلم غيره . وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ ؛ إذ أمر اللّه رسوله أن يقرأ عليه . قال أبو بكر الأنباري : وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد ، قال حدثنا علي بن الجعد ، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال في قراءة أبيّ بن كعب : ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ، ولو أعطي واديين من مال لا لتمس ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب اللّه على من تاب . قال عكرمة . قرأ علي عاصم " لم يكن " ثلاثين آية ، هذا فيها . قال أبو بكر : هذا باطل عند أهل العلم ، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبيّ بن كعب ، لا يقرأ فيها هذا المذكور في " لم يكن " مما هو معروف في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على أنه من كلام الرسول عليه السلام ، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن . وما رواه اثنان معهما الإجماع أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة .
قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا } كذا قراءة العامة ، وخط المصحف . وقرأ ابن مسعود " لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين " وهذه قراءة على التفسير . قال ابن العربي : " وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة ، فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح " فطلقوهن لقبل عدتهن " وهو تفسير ، فإن التلاوة : هو ما كان في خط المصحف " .
قوله تعالى : { من أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى { والمشركين } في موضع جر عطفا على { أهل الكتاب } . قال ابن عباس { أهل الكتاب } : اليهود الذين كانوا بيثرب ، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع . والمشركون : الذين كانوا بمكة وحولها ، والمدينة والذين حولها ، وهم مشركو قريش . { منفكين } أي منتهين عن كفرهم ، مائلين عنه . { حتى تأتيهم البينة } أي أتتهم البينة ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم . وقيل : الانتهاء بلوغ الغاية ، أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا ، حتى تأتيهم البينة . فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء . وقيل : { منفكين } زائلين ، أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول . والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا ، أي ما زلت . وما انفك فلان قائما ، أي ما زال قائما . وأصل الفك : الفتح ، ومنه فك الكتاب ، وفك الخلخال ، وفك السالم{[16251]} . قال طرفة :
فآليتُ لا ينفكُّ كَشْحِي بطانةً *** لِعَضْبٍ رقيق الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدِ{[16252]}
حَرَاجِيجُ ما تنفكُّ إلا مُنَاخَةً *** على الخَسْفِ أو نرمي بها بلداً قَفْرَا{[16253]}
يريد : ما تنفك مناخة ، فزاد " إلا " . وقيل : " منفكين " : بارحين ، أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا ، حتى تأتيهم البينة . وقال ابن كيسان : أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم ، حتى بعث ، فلما بعث حسدوه وجحدوه . وهو كقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }{[16254]} [ البقرة : 89 ] . ولهذا قال : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } [ البينة : 4 ] . . . الآية . وعلى هذا { والمشركين } أي ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم ، حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه : الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهم ، فحينئذ عادوه . وقال بعض اللغويين : " منفكين " هالكين من قولهم : انفك صلا{[16255]} المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل ، فلا يلتئم فتهلك ، المعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب . وقال قوم في المشركين : إنهم من أهل الكتاب ، فمن اليهود من قال : عزير ابن اللّه . ومن النصارى من قال : عيسى هو اللّه . ومنهم من قال : هو ابنه . ومنهم من قال : ثالث ثلاثة . وقيل : أهل الكتاب كانوا مؤمنين ، ثم كفروا بعد أنبيائهم . والمشركون ولدوا على الفطرة ، فكفروا حين بلغوا . فلهذا قال : " والمشركين " . وقيل : المشركون وصف أهل الكتاب أيضا ، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم ، وتركوا التوحيد . فالنصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبهة ، والكل شرك . وهو كقولك : جاءني العقلاء والظرفاء ، وأنت تريد أقواما بأعيانهم ، تصفهم بالأمرين . فالمعنى : من أهل الكتاب المشركين . وقيل : إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى ، الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون ، الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين . قال القشيري : وفيه بعد ؛ لأن الظاهر من { حتى تأتيهم البينة . رسول من اللّه } أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم . فيبعد أن يقال : لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد ، إلا أن يقال : أراد : لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له - بمنتهين عن هذا الكفر ، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ، ويبين لهم الآيات ، فحينئذ يؤمن قوم . وقرأ الأعمش وإبراهيم " والمشركون " رفعا ، عطفا على " الذين " . والقراءة الأولى أبين ؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب . وفي حرف أبيّ : " فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين " . وفي مصحف ابن مسعود : " لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين " . وقد تقدم . { حتى تأتيهم البينة } قيل حتى أتتهم . والبينة : محمد صلى اللّه عليه وسلم .
ذكر الله الكفار ثم قسمهم إلى صنفين : أهل الكتاب والمشركين ، وذكر أن جميعهم لم يكونوا منفكين حتى تأتيهم البينة وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى منفكين منفصلين ، ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال :
أحدها أن المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة لتقوم عليهم الحجة .
الثاني : لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله .
الثالث : اختاره ابن عطية ، وهو لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقدرته حتى يبعث الله إليهم رسولا يقيم عليهم الحجة .
الرابع : وهو الأظهر عندي أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا من الدنيا حتى بعث الله لهم سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقامت عليهم الحجة ؛ لأنهم لو انفصلت الدنيا دون بعثه لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ، فلما بعثه الله لم يبق لهم عذر ولا حجة ، فمنفكين على هذا ، كقولك : لا تبرح أو لا تزول حتى يكون كذا وكذا .