قوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } ، أي : رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لرفعناه بعلمه بها . وقال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر ، وعصمناه بالآيات .
قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } ، أي : سكن إلى الدنيا ومال إليها . قال الزجاج : خلد وأخلد واحد . وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام ، يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا ، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض ، وسائر متاعها مستخرج من الأرض .
قوله تعالى : { واتبع هواه } ، انقاد لما دعاه إليه الهوى ، قال ابن زيد : كان هواه مع القوم ، قال عطاء : أراد الدنيا ، وأطاع شيطانه ، وهذه أشد آية على العلماء ، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة ، والعلم ، والحكمة ، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا ، واتباع الهوى ، تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها ، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله ؟
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن زرارة ، عن كعب بن مالك الأنصاري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) .
قوله تعالى : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } ، يقال : لهث الكلب يلهث لهثاً : إذا أدلع لسانه . قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به ، والمعنى : أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب ، إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثاً ، وإن ترك وربض كان لاهثاً ، قال القتبي : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة ، وفي حال العطش ، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته فهو ضال ، كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ، نظيره قوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } [ الأعراف : 193 ] ، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله .
قوله تعالى : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } ، وقيل : هذا مثل لكفار مكة ، وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلما جاءهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا تركوا أو دعوا .
ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد . . إذا نحن بهذا المخلوق ، لاصقا بالأرض ، ملوثا بالطين . ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب ، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى ؛ والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر . . فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها . . مشهد اللهاث الذي لا ينقطع . سمع التعليق المرهوب الموحي ، على المشهد كله :
( ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ) . .
ذلك مثلهم ! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم . ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً . ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان ، هابطون عن مكان " الإنسان " إلى مكان الحيوان . . مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين . . وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين ؛ وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم ، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين !
وقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي : لرفعناه من التدنس عن{[12393]} قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها ، { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } أي : مال إلى زينة الدنيا وزهرتها ، وأقبل على لذاتها ونعيمها ، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر{[12394]} والنهى .
وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى : { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } قال : تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس ، فسجدت الحمارة لله ، وسجد بلعام للشيطان . وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير ، وغير واحد .
وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } اختلف المفسرون في معناه{[12395]} فأما على سياق ابن إسحاق ، عن سالم بن أبي النضر : أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه{[12396]} في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك . وقيل : معناه : فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه ، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهثه{[12397]} في حالتيه ، إن حملت عليه وإن تركته ، هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه ؛ كما قال تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ، { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ونحو ذلك .
وقيل : معناه : أن قلب الكافر والمنافق والضال ، ضعيف فارغ من الهدى ، فهو كثير الوجيب{[12398]} فعبر عن هذا بهذا ، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره .
وقوله تعالى : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ } أي : لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام ، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران ، [ عليه السلام ]{[12399]} ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيحذروا أن يكونوا مثله ؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا ، وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته ، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد ، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة .
يقول الله عز وجل : { ولو شئنا لرفعناه } قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في : { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له ، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير على هذا عائد على الآيات ، ثم ابتدأ وصف حاله ، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى { لرفعناه } أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه ، { ولكنه أخلد إلى الأرض } فالكلام متصل ، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ، ممن أوتي هدى . و { أخلد } معناه لازم وتقاعس وثبت ، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد ، ومنه قول زهير : [ الكامل ]
لمن الديار غشيتها بالفدفد*** كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقوله : { إلى الأرض } يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ ، قاله السدي وغيره ، ويحتمل أن يريد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض ، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان ، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية ، وقوله : { فمثله كمثل الكلب } قال السدي وغيره : إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة ، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه ، وتركه دون حمل عليه ، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب ، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على «مثل » ، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب ، وهو في الفرس : ضبح ، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال ، وذكر الطبري أن معنى { إن تحمل عليه } أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا ، وقوله : { ذلك مثل القوم } أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقوله : { فاقصص القصص } أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك فيؤمنون .