قوله تعالى :{ إن قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمه ، لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام ، وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري ، { فبغى عليهم } قيل : كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال . وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك . وقال شهر بن حوشب : زاد طول ثيابه شبراً ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " وقيل : بغى عليهم بالكبر والعلو . { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه } هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه ، خزائنه ، كما قال : { وعنده مفاتح الغيب } أي : خزائنه ، { لتنوء بالعصبة أولي القوة } لتثقلهم أي : وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلاً . واختلفوا في عدد العصبة ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم : ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين . وقيل : أربعون رجلاً . وقيل : سبعون . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال . وقال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز . ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب ، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً . { إذ قال له قومه } قال لقارون قومه من بني إسرائيل : { لا تفرح } لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ، { إن الله لا يحب الفرحين } الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ؛ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة . إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين . قال : إنما أوتيته على علم عندي ) . .
هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها " قارون " وتحدد قومه " قوم موسى " وتقرر مسلكه مع قومه ، وهو مسلك البغي ( فبغى عليهم )وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء :
( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) . .
ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس . لقد كان قارون من قوم موسى ، فأتاه الله مالا كثيرا ، يصور كثرته بأنه كنوز - والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول - وبأن مفاتح هذه الكنوز تعيي المجموعة من أقوياء الرجال . . من أجل هذا بغى قارون على قومه . ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور . فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال . حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب ، وتفسد الحياة . وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب .
وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي ، ورجعه إلى النهج القويم ، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء ؛ وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم ؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ؛ ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال ؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم ، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب :
إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض . إن الله لايحب المفسدين .
وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة .
( لا تفرح ) . . فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال ، والاحتفال بالثراء ، والتعلق بالكنوز ، والابتهاج بالملك والاستحواذ . . لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال ؛ وينسي نعمته ، وما يجب لها من الحمد والشكران . لا تفرح فرح الذي يستخفه المال ، فيشغل به قلبه ، ويطير له لبه ، ويتطاول به على العباد . .
( إن الله لا يحب الفرحين ) . . فهم يردونه بذلك إلى الله ، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال ، المتباهين ، المتطاولين بسلطانه على الناس .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ قارُونَ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يقول : كان من عشيرة موسى بن عمران النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه لأبيه وأمه ، وذلك أن قارون هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى : هو موسى بن عمران بن قاهث ، كذا نسبه ابن جُرَيج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَومِ مُوسَى قال : ابن عمه ابن أخي أبيه ، فإن قارون بن يصفر ، هكذا قال القاسم ، وإنما هو يصهر بن قاهث ، وموسى بن عومر بن قاهث ، وعومر بالعربية : عمران . وأما ابن إسحاق فإن ابن حميد .
حدثنا ، قال : حدثنا سلمة عنه ، أن يصهر بن قاهث تزوّج سميت بنت بتاويت بن بركنا بن بقشان بن إبراهيم ، فولدت له عمران بن يصهر ، وقارون بن يصهر ، فنكح عمران بخنت بنت شمويل بن بركنا بن بقشان بن بركنا ، فولدت له هارون بن عمران ، وموسى بن عمران صفيّ الله ونبيه فموسى على ما ذكر ابن إسحاق ابن أخي قارون ، وقارون هو عمه أخو أبيه لأبيه ولأمه . وأكثر أهل العلم في ذلك على ما قاله ابن جُرَيج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، في قوله : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمّ موسى .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، قال : حدثنا سعيد عن قَتادة إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى : كنا نحدّث أنه كان ابن عمه أخي أبيه ، وكان يسمى المنوّر من حُسن صوته بالتوراة ، ولكن عدوّ الله نافق ، كما نافق السامريّ ، فأهلكه البغي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال كان ابن عمه فبغى عليه .
قال : ثنا يحيى القطان ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم ، قال : كان قارون ابن عمّ موسى .
قال : ثنا أبو معاوية ، عن ابن أبي خالد ، عن إبراهيم إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمه .
حدثني بشر بن هلال الصوّاف ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان الضّبَعِيّ ، عن مالك بن دينار ، قال : بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عمّ قارون .
وقوله : فَبَغَى عَلَيْهِمْ يقول : فتجاوز حدّه في الكبر والتجبر عليهم .
وكان بعضهم يقول : كان بغيه عليهم زيادة شبر أخذها في طول ثيابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ وأبو السائب وابن وكيع قالوا : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن شَهِر بن حَوْشب إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ قال : زاد عليهم في الثياب شبرا .
وقال آخرون : كان بغيه عليهم بكثرة ماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : إنما بغى عليهم بكثرة ماله .
وقوله : وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ يقول تعالى ذكره : وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه ، وهي جمع مفتح ، وهو الذي يفتح به الأبواب .
وقال بعضهم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : الخزائن لتُثْقِل العصبة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في معنى مفاتح :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلاً ، كلّ مفتاح منها باب كنز معلوم مثل الأُصبُع من جلود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلاً أغرّ محّجل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن خيثمة ، في قوله ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوء بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ قال : نجد مكتوبا في الإنجيل مفاتح قارون وِقر ستين بغلاً غرّا محجلة ، ما يزيد كل مفتاح منها على أصبع ، لكل مفتاح منها كنز .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، قال : كانت المفاتح من جلود الإبل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وآتَيْناهُ مِن الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : مفاتح من جلود كمفاتح العيدان .
وقال قوم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : خزائنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيت ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حجيرَ ، عن الضحاك ما إنّ مَفاتِحَهُ قال : أوعيته .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، في قوله : لَتَنُوء بالعُصْبَةِ قال : لتثقل بالعصبة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ يقول : تَثْقُل . وأما العُصبة فإنها الجماعة .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد في هذا الموضع فأما مبلغ عدد العصبة في كلام العرب فقد ذكرناه فيما مضى باختلاف المختلفين فيه ، والرواية في ذلك ، والشواهد على الصحيح من قولهم في ذلك بما أغني عن إعادته في هذا الموضع ، فقال بعضهم : كانت مفاتحه تنوء بعصبة مبلغ عددها أربعون رجلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : أربعون رجلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قَتادة لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ : يزعمون أن العصبة أربعون رجلاً ، ينقلون مفاتحه من كثرة عددها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ قال : أربعون رجلاً .
وقال آخرون : ستون ، وقال : كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلاً .
حدثنا كذلك ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة .
وقال آخرون : كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العصبة : ثلاثة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العصبة : ما بين الثلاثة إلى العشرة .
وقال آخرون : كانت تحمل ما بين عشرة إلى خمسة عشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العُصْبة : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد لَتَنُوءُ بالعُصْبَة قال : العصبة : خمسة عشر رجلاً .
وقوله : أُولى القُوّةِ يعني : أولى الشدّة . وقال مجاهد في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أُولى القُوّةِ قال : خمسةَ عَشَر .
فإن قال قائل : وكيف قيل وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ وكيف تنوء المفاتح بالعصبة ، وإنما العصبة هي التي تنوء بها ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل العلم بكلام العرب ، فقال بعض أهل البصرة : مجاز ذلك : ما إن العصبة ذوي القوّة لتنوء بمفاتح نعمه . قال : ويقال في الكلام : إنها لتنوء بها عجيزتها ، وإنما هو : تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله ، قال : والعرب قد تفعل مثل هذا . قال الشاعر :
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمالي *** وما آلُوكَ إلاّ ما أُطِيقُ
والمعنى : فديت بنفسي وبمالي نفسه .
وَتَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوَادَةَ بَيْنَها *** وَتَشْقَى الرّماحُ بالضّياطِرَةِ الحُمْرِ
وإنما تشقى الضياطرة بالرماح . قال : والخيل هاهنا : الرجال .
وقال آخر منهم ما إنّ مَفاتِحَهُ قال : وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه «إن » ، وقد قال : إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم . وقوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ إنما العصبة تنوء بها وفي الشعر :
*** تَنُوءُ بِها فَتُثْقِلُها عَجِيزَتُها ***
وليست العجيزة تنوء بها ، ولكنها هي تنوء بالعجيزة وقال الأعشى :
ما كُنْتَ فِي الحَرْبِ العَوَانِ مُغَمّرَا *** إذْ شَبّ حَرّ وَقُودِها أجْذَالَهَا
وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يُنكر هذا الذي قاله هذا القائل ، وابتداء إن بعد ما ، ويقول : ذلك جائز مع وما من ، وهو مع ما ومَنْ أجود منه مع الذي ، لأن الذي لا يعمل في صلته ، ولا تعمل صلته فيه ، فلذلك جاز ، وصارت الجملة عائد «ما » ، إذ كانت لا تعمل في «ما » ، ولا تعمل «ما » فيها قال : وحَسُن مع «ما » و «من » ، لأنهما يكونان بتأويل النكرة إن شئت ، والمعرفة إن شئت ، فتقول : ضربت رجلاً ليقومنّ ، وضربت رجلاً إنه لمحسن ، فتكون «مَنْ و ما » تأويل هذا ، ومع «الذي » أقبح ، لأنه لا يكون بتأويل النكرة .
وقال آخر منهم في قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ : نَوْءُها بالعصبة : أن تُثْقلهم وقال : المعنى : إن مفاتحه لتنيءُ العصبة : تميلهن من ثقلها ، فإذا أدخلت الباء قلت : تَنُوء بهم ، كما قال : آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَا قال والمعنى : آتوني بقطر أفرغ عليه فإذا حُذفت الباء ، زدت على الفعل ألفا في أوّله ومثله : فأجاءَها المَخاضُ معناه : فجاء بها المخاض وقال : قد قال رجل من أهل العربية : ما إن العصبة تَنُوء بمفاتحه ، فحوّل الفعل إلى المفاتح ، كما قال الشاعر :
إنّ سِرَاجا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى بهِ العَيْنُ إذَا ما تَجْهَرُهْ
وهو الذي يحلَى بالعين ، قال : فإن كان سمع أثرا بهذا ، فهو وجه ، وإلاّ فإن الرجل جهل المعنى . قال : وأنشدني بعض العرب :
حتى إذَا ما الْتَأَمَتْ مَوَاصِلُهْ *** ونَاءَ فِي شِقّ الشّمالِ كاهِلُهْ
يعني : الرامي لِما أخذ القوس ، ونزع مال عليها . قال : ونرى أن قول العرب : ما ساءك ، وناءك من ذلك ، ومعناه : ما ساءك وأناءك من ذلك ، إلاّ أنه ألقى الألف لأنه متبع لساءك ، كما قالت العرب : أكلت طعاما فهنأني ومرأني ، ومعناه : إذا أفردت : وأمرأني فحذفت منه الألف لما أتبع ما ليس فيه ألف .
وهذا القول الاَخر في تأويل قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ : أولى بالصواب من الأقوال الأُخَر ، لمعنيين : أحدهما : أنه تأويل موافق لظاهر التنزيل . والثاني : أن الاَثار التي ذكرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت ، وأن قول من قال : معنى ذلك : ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه ، إنما هو توجيه منهم إلى أن معناه : ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه وإذا وجه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنه أريد به الخبر عن كثرة كنوزه ، على نحو ما فيه ، إذا وجه إلى أن معناه : إن مفاتحه تثقل العصبة وتميلها ، لأنه قد تنهض العصبة بالقليل من المفاتح وبالكثير . وإنما قصد جلّ ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك ، وإذا أريد به الخبر عن كثرته ، كان لا شكّ أن الذي قاله من ذكرنا قوله ، من أن معناه : لتنوء العصبة بمفاتحه ، قول لا معنى له ، هذا مع خلافه تأويل السلف في ذلك .
وقوله : إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ يقول : إذ قال قومه : لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا ، إن الله لا يحبّ من خلقه الأَشِرِين البَطِرِين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ يقول : المَرِحِين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : المتبذّخين الأَشِرين البَطِرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن جابر ، قال : سمعت مجاهدا يقول في هذه الاَية إن اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأَشِرين البَطِرِين البَذِخين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن مجاهد ، في قوله لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : يعني به البغي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : المتبذّخين الأشرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله إلاّ أنه قال : المتبذّخين .
حدثنا محمد بن عبد الله المُخَرّميّ ، قال : ثني شَبَابة ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأشِرينَ البَطِرِين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، إذ قال له قومه لا تَفْرَحْ : أي لا تمرح إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ : أي إن الله لا يحبّ المَرِحين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد لا تَفْرَحْ إنّ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأَشِرِين البطرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن مجاهد ، في قوله إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : هو فَرَح البَغْي .
{ إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بالعصبة أُوْلِى القُوَّةِ }
كان من صنوف أذى أيمة الكفر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبزهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم ، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } [ سبأ : 35 ] وقوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة } [ المزمل : 11 ] الآية . روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد : إن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل . قالوا : « أيريد محمد أن نكون تبعاً لهؤلاء ( يعنون خباباً ، وبلالاً ، وعماراً ، وصهيباً ) فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } إلى قوله { بالشاكرين } [ الأنعام : 52 - 53 ] . وكان فيما تقدم من الآيات قريباً قوله تعالى { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { من المحضرين } [ القصص : 60 - 61 ] كما تقدم .
وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلاً بحال قارون مع موسى وأن مثل قارون صالح لأن يكون مثلاً لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأذاهما إياه ، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرتّ وغيره ، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه . قال تعالى { ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً } [ المدثر : 11 - 12 ] فإن المراد به الوليد بن المغيرة .
فقوله { إن قارون كان من قوم موسى } اسئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلاً لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } [ القصص : 60 ، 61 ] .
ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } [ القصص : 46 ] الآية .
و { قارون } اسم معرب أصله في العبرانية ( قورح ) بضم القاف مشبعة وفتح الراء ، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف ، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت ، وجالوت ، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن .
و ( قورح هذا ابن عم موسى عليه السلام دنيا ) ، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن لاوى بن يعقوب .
وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم ، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن ( قُورَح ) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلاً منهم على موسى وهارون عليهما السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط ( لاوى ) فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون : ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال ( قورح ) كلها ، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب ( أريحا ) قبل فتحها . وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل ( قورح ) رئيساً على بني إسرائيل في مصر وأنه جمع ثروة عظيمة .
وما حكاه القرآن يبين سبب نُشُوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمّر { قارون } على قومه فحقد على موسى . وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن . وما لهم به من برهان . وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية .
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر { إن } وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين ، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له ، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله { إذ قال له قومه لا تفرح } إلى آخر القصة المنتهية بالخسف .
ويجوز أن تكون { إن } لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدواً له ولأتباعه ، فأمره أغرب من أمر فرعون .
وعدل عن أن يقال : كان من بني إسرائيل ، لما في إضافة { قوم } إلى { موسى } من الإيماء إلى أن لقارون اتصالاً خاصاً بموسى فهو اتصال القرابة .
وجملة { فبغى عليهم } معترضة بين جملة { إن قارون كان من قوم موسى } وجملة { وءاتيناه من الكنوز } ، والفاء فيها للترتيب والتعقيب ، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته ، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قالطرفة :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد
والبغي : الاعتداء ، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها ، وأول ذلك خرق شريعتها . وفي الإخبار عنه بأنه { من قوم موسى } تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه .
وفي قوله { إن قارون كان من قوم موسى } محسّن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن ، أي النثر الذي يجيء بميزان بعض بحور الشعر ، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف ، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر .
وجملة { إن مفاتحه لتنوء بالعصبة } صلة { ما } الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع { إن } في افتتاح صلة الموصول . ومنع الكوفيون من ذلك واعتُذر عنهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا { ما } هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة .
والمفاتح : جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقيية وهو آلة الفتح ، ويسمى المفتاح أيضاً . وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى { وعنده مفاتح الغيب } في سورة [ الأنعام : 59 ] .
و { الكنوز } : جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة ، وتقدم في قوله تعالى { لولا أنزل عليه كنز } في سورة [ هود : 12 ] ، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون : بدرة مال ، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه . وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال « يكفي الكوفة مفتاح » أي مفتاح واحد ، أي كنز واحد من المال له مفتاح ، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل :
{ وتنوء ) : تثقل . ويظهر أن الباء في قوله { بالعصبة } باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قول امرىء القيس :
ولا كمثال صاحب « الكشاف » : ناء به الحمل ، إذا أثقله الحمل حتى أماله .
وأما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب ، فلا يقبله من كان له قلب .
والعُصبة : الجماعة ، وتقدم في سورة يوسف . وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر . وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها .
{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَيُحِبُّ الفرحين } :
{ إذ } ظرف منصوب بفعل ( بغى عليهم ) والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقاً ب ( أذكر ) محذوفاً وهو المعني في نظائره من القصص .
والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله .
والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى { وفرحوا بها } في [ يونس : 22 ] . ويطلق على البطر والازدهاء ، وهو الفرح المفرط المذموم ، وتقدم في قوله تعالى : { وفرحوا بالحياة الدنيا } في سورة [ الرعد : 26 ] وهو التمحض للفرح . والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه ، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية ، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضاً عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة } . وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مراداً به العجب والبطر . وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيداً لدلالة المقام بقوله { إن الله لا يحب الفرحين } ، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة ( فعل ) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي ، فالجملة علة للتي قبلها ، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزاً إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك .