قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } . اختلفوا في موضع هذه اللام : قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله ( فلأنفسكم ) كأنه قال : وما تنفقوا من خير فللفقراء ، وإنما تنفقون لأنفسكم ، وقيل : معناها الصدقات التي سبق ذكرها ، وقيل : خبره محذوف تقديره : للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب ، وهم فقراء المهاجرين ، كانوا نحواً من أربعمائة رجل ، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر ، وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ، ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة ، فحث الله تعالى عليهم الناس ، فكان من عنده فضل أتاهم به أذا أمسى . ( الذين أحصروا في سبيل الله ) فيه أقاويل ، قال قتادة : وهو هؤلاء حسبوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله .
قوله تعالى : { لا يستطيعون ضربا في الأرض } . لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش ، وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم ، وقيل : حسبوا أنفسهم على طاعة الله ، وقيل : معناه حسبهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله ، وقيل : هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمني ، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد ، وقيل : معناه من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حرباً عليهم فلا يستطيعون ضرباً في الأرض من كثرة أعدائهم .
قوله تعالى : { يحسبهم } . قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة : " يحسبهم " وبابه بفتح السين ، وقرأ الآخرون بالكسر .
قوله تعالى : { الجاهل } . بحالهم .
قوله تعالى : { أغنياء من التعفف } . أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم ، يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء ، والتعفف التفعل ، من العفة وهي الترك ، يقال :عف عن الشيء إذا كف عنه ، وتعفف إذا تكلف في الإمساك .
قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } . السيماء والسيمياء والسمة : العلامة التي يعرف بها الشيء ، واختلفوا في معناها هاهنا فقال مجاهد : هو التخشع والتواضع وقال السدي : أثر الجهد من الحاجة والفقر ، وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع والضر ، وقيل رثاثة ثيابهم .
قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافا } . قال عطاء : إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء ، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء ، وقيل معناه : لا يسألون الناس إلحافاً أصلاً ، لأنه قال : من التعفف ، والتعفف ترك السؤال ، ولأنه قال : تعرفهم بسيماهم ، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة ، فمعنى الآية : ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف ، والألحاف : الإلحاح واللجاج .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيذهب فيأتي بحزمة حطب غلى ظهره ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أم منعوه " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمة واللقمتان والتمر والتمرتان . قالوا : فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى فيغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس " . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الظاهري ، أخبرنا جدي سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا بن غدافر ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الديري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن هارون بن ريان ، عن كنانة العدوي ، قبيصة بن مخارق قال : " إني تحملت بحمالة في قومي ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسوا الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها " قال : بل نتحملها عنك يا قبيصة ، ونؤديها إليهم من الصدقة ثم قال : يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث : في رجل أصابته جاحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواماً من عيشه ثم يمسك ، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة أن المسألة قد حلت له ، فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك ، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك ، وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتاً " .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو عبد الجبار ابن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أوخدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها ذهبا " .
ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر ، والثاني قوله : { أحصروا في سبيل الله } أي : قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره ، فهم مستعدون لذلك محبوسون له ، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال : { لا يستطيعون ضربا في الأرض } أي : سفرا للتكسب ، الرابع قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم . الخامس : أنه قال : { تعرفهم بسيماهم } أي : بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم ، وهذا لا ينافي قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه ، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم{[150]} يعرفهم بعلامتهم ، السادس قوله : { لا يسألون الناس إلحافا } أي : لا يسألونهم سؤال إلحاف ، أي : إلحاح ، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا ، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات ، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان ، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر ، فلهذا قال : { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 )
هذه اللام في قوله { للفقراء } متعلقة بمحذوف( {[2678]} ) مقدر ، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء ، وقال مجاهد والسدي وغيرهما : المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين( {[2679]} ) من قريش وغيرهم ، قال الفقيه أو محمد : ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر( {[2680]} ) ، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم ، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم ، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم ، بقوله : { الذين أحصروا في سبيل الله } والمعنى حبسوا( {[2681]} ) ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار ، حكاه ابن سيده وغيره ، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو . وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار . وحصر بالعدو . وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري . وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر ، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر ، كما قالوا قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر ، فالعدو وكل محيط يحصر ، والأعذار المانعة «تُحصِر » بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط( {[2682]} ) به ، وقوله : { في سبيل الله } يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ، واللفظ يتناولهما( {[2683]} ) ، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة ، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز ، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفراً مطبقاً ، وهذا في صدر الهجرة ، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد . وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة . فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث { يحسبهم الجاهل } بباطن أحوالهم { أغنياء }( {[2684]} ) و { التعفف } تفعل ، وهو بناء مبالغة من عفَّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه . وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره( {[2685]} ) ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسِبهم » بكسر السين . وكذلك هذا الفعل في كل القرآن ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم » بفتح السين في كل القرآن ، وهما لغتان في «يحسب » كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك ، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة ، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به ، وإن كان شاذاً عن القياس ، و { من } في قوله : { من التعفف } لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء غناء مال ، ومحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } : المعنى لا يسألون البتة .
وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس ، سنذكره بعد( {[2686]} ) والسيما مقصورة العلامة . وبعض العرب يقول : السيمياء بزيادة ياء وبالمد ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] .
لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ( {[2687]} ) . . . واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما » التي يعرف بها هؤلاء المتعففون ، فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع ، وقال السدي والربيع : هي جهد الحاجة وقضف( {[2688]} ) الفقر في وجوههم وقلة النعمة ، وقال ابن زيد : هي رثة الحال( {[2689]} ) ، وقال قوم ، وحكاه مكي : هي أثر السجود .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة ، فكان أثر السجود عليهم أبداً( {[2690]} ) ، و «الإلحاف » والإلحاح بمعنى واحد ، وقال قوم : هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية ، ومنه اللحاف ، ومنه قول ابن الأحمر : [ الوافر ]
يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقُفْقُفَيْهِ . . . وَيُلْحِفُهنَّ هَفهَافاً ثَخِينَا( {[2691]} )
يصف ذكر نعام يحضن بيضاً ، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك ، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط( {[2692]} ) ، أما الأولى فعلى أن يكون { التعفف } صفة ثابتة لهم ، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال ، وتكون { من } لابتداء الغاية( {[2693]} ) ويكون قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس ، كما تقول : هذا رجل خير لا يقتل المسلمين . فقولك : «خير » قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك ، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل ، وكثيراً ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجوداً في القضية مشاراً إليه في نفس المتكلم والسامع . وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة ، وهو مما يكره ، فلذلك نبه عليه .
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون { التعفف } داخلاً في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالاً ، بل هو قليل .
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، ف { من } لبيان الجنس( {[2694]} ) على هذا التأويل ، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقرراً لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب ، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي ، وقال الزجّاج رحمه الله : المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف( {[2695]} ) .
وهذا كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ . . . ( {[2696]} )
أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا ، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه ، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية ، وأما تشبيهه الآية ببيت امرىء القيس فغير صحيح( {[2697]} ) ، وذلك أن قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر : [ البسيط ] .
قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ . . . ( {[2698]} )
وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا . . . ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ( {[2699]} )
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار ، وإن كان المنار موجوداً فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط ، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم ، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور ، وهذا لا يترتب في الآية ، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني ، أي ليس ثم منار ، فإذاً لا يكون اهتداء بمنار ، وليس ثم قدم فإذاً لا يكون عفا ، وليس ثم جور فإذاً لا يكون خوف ، وقوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } ، لا يترتب فيه شيء من هذا ، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره ، ثم خصص بقوله : { إلحافاً } جزءاً من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال ، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم ، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف ، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه ، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالاً لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة ، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال ، كأنك قلت تكسباً أو نحوه لصح الشبه( {[2700]} ) ، والله المستعان وقوله تعالى : { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب .
{ للفقراء } متعلّق بتنفقون الأخير ، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة ، فما من نفقة ذكرت آنفاً إلاّ وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضاً .
و { الذين أحصروا } أي حبسوا وأرصدوا . ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا الجهاد ؛ فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمْنَى ، ففي للسبيبة والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله : { في سبيل الله } ، والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد ؛ وإن كانوا قوماً بصدد القتال يحتاجون للمعونة ، ففي للظرفية المجازية ؛ وإن كان المراد بهم أهل الصفة{[196]} ، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاؤوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة ، فمعنى أحصروا في سبيل الله عِيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة ، ففي للتعليل . وقد قيل : إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فسبيل الله هو الجهاد . ومعنى « أحصروا » على هذا الوجه أرصدوا . و ( في ) باقية على التعليل .
والظاهر من قوله : { لا يستطيعون ضرباً } أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد ، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته .
وجملة { لا يستطيعون ضرباً } يجوز أن تكون حالاً ، وأن تكون بياناً لجملة أحصروا .
وقوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } حال من الفقراء ، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء ، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان .
والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق . وفي « البخاري » باب الاستعفاف عن المسألة ، أخرج فيه حديث أبي سعيد : أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفِدَ ما عنده فقال : " ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم ، ومن يستعفف يُعِفّه الله ، ومن يستغنِ يُغْنِه الله ، ومن يتصبّر يصبِّره الله " .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسِبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين ، وهما لغتان .
ومعنى { تعرفهم بسماهم } أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيَّن ليعم كلّ مخاطب ، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم . والمخاطب بتَعْرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } .
والجملة بيان لجملة { يحسبهم الجاهل أغنياء } ، كأنّه قيل : فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّاً ، وكيف يُطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] .
والسيما العلامة ، مشتقة من سَام الذي هو مقلوب وَسَم ، فأصلها وِسْمَى ، فوزنها عِفْلَى ، وهي في الصورة فِعْلى ، يدل لذلك قولهم سِمَة ؛ فإنّ أصلها وِسْمَة .
ويقولون سِيمى بالقصر وسِيماء بالمد وسِيميَاء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سَوّم إذا جَعَل سِمة . وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها . ولم يسمع من كلامهم فِعْل مجردٌ من سوّم المقلوب ، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سَوّم فرسه .
وقوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بياناً ثانياً ، لكيفية حُسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس . وكان مُقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلاّ أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضرباً في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام .
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئاً من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلاّ وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء .
والإلحاف الإلحاح في المسألة . ونُصب على أنّه مفعول مطلق مُبيّن للنوع ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير يسألون بتأويل مُلحفين . وأيَّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم مُلحفون وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم مع أنّ قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } يدل على أنّهم لا يسألون أصلاً ، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفيُ الإلحاف معاً كقول امرىء القيس :
* عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *
يُريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يُحسبون أغنياء من التعفّف ، ونظيره قوله تعالى : { ما للظالمين من حميم ولا شفيعٍ يُطاعُ } [ غافر : 18 ] أي لا شفيع أصلاً ، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعاً من أنواع الكناية ، وقال التفتازاني : « إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللاّحب أن يكون له مَنار ، وشأنَ الشفيع أن يُطاع ، فيكون نفي اللازم نفياً للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضدُّ الإلحاف وهو الرفق والتلطّف أشبه باللازم » ( أي أن يكون المنفي مُطرّد اللزوم للمنفي عنه ) . وجوّز صاحب « الكشاف » أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف ، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول الذي جعل في « الكشاف » ثانياً وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون ، وتعين أنّ قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } تعريض بالملحفين في السؤال ، أي زيادة فائدة في عدم السؤال .
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعَة ، وقوله : { فإن الله به عليم } كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيراً ، فلما كان الإنفاق مرغّباً فيه من الله ، وكان عِلم الله بذلك معروفاً للمسلمين ، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق ، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليماً به ، لأنّه قدير عليه . وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفِق ، وصلة بينه وبين ربّه ، ونوال الجزاء من الله ، وأنّه ثابت له في علم الله .