فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لايستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم 273

( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) بالغزو والجهاد ، وفيه بيان مصرف الصدقات واختاره ابن الانباري ، قال ابن عباس : هم أصحاب الصُفّة يعني فقراء المهاجرين ، كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر ، وكانوا يأوون إلى صفة في المسجد يتعلمون القرآن بالليل ، وهم الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد خاصة ، وعلى طاعة الله عامة قيل منعوا عن التكسب لما هن فيه من الضعف .

( ولا يستطيعون ضربا في الأرض ) للتكسب بالتجارة والزراعة ونحو ذلك بسبب ضعفهم ، قال مجاهد : هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم ، وقال سعيد بن جبير : هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله فصاروا زمنى ، فجعل لهم في أموال المسلمين حقا وقيل كل من يتصف بالفقر وما ذكر معه .

( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) ذكر سبحانه من صفة أولئك الفقراء ما يوجب الحنو عليهم والشفقة بهم ، وهو كونهم متعففين عن المسئلة وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم ومن لم يختبر حالهم أنهم أغنياء ، والتعفف تفعل من العفة وهو بناء مبالغة من عف عن الشئ إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه .

وفي " يحسبهم " لغتان فتح السين وكسرها قال أبو علي الفارسي والفتح أقيس ، لأن العين من الماضي مكسور فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة فالقراءة بالكسر على هذا حسنة وإن كانت شاذة " ومن " لابتداء الغاية وقيل لبيان الجنس .

( تعرفهم ) أي تعرف فقرهم ( بسيماهم ) أي برثاثة ثيابهم من الضر وصفرة ألوانهم من الجوع وضعف أبدانهم من الفقر وكل ما يشعر بالفقر والحاجة ، وقيل التواضع والخضوع ، والأول أولى ، والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للمخاطبة ، والسيما مقصورة العلامة وقد تمد وهي مقلوبة لأنها مشتقة من الوسم فهي من السمة أي العلامة .

( لا يسألون الناس إلحافا ) الإلحاف الإلحاح في المسألة وهو مشتق من اللحاف سمى بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسئلة كاشتمال اللحاف على التغطية ، والمعنى أنهم لا يسألونهم البتة لا سؤال إلحاح ولا سؤال غير إلحاح ، وبه قال الطبري والزجاج وإليه ذهب جمهور المفسرين .

ووجهه أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم ومجرد السؤال ينافيها ، وقيل المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف ولا يلحفون في سؤالهم ، وهذا وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد لكن صفة التعفف تنافيه ، وأيضا كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال البتة .

وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، واقرؤا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافا{[284]} .

وقد ورد في تحريم المسئلة أحاديث كثيرة إلا من ذي سلطان أو في أمر لا يجد منه بدا .

( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) أي يعلم مقادير الإنفاق يجازي عليه وفيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة لا سيما على هؤلاء .


[284]:صحيح الجامع الصغير 5259 و5260.