سورة   البقرة
 
محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإنّ اللّه به عليم 273 } .

{ للفقراء } متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام . أي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء . أو صدقاتكم للفقراء . أي المحتاجين إلى النفقة { الذين أحصروا في سبيل الله } أي حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره { لا يستطيعون ضربا } أي ذهابا { في الأرض } لاكتساب أو تجارة { يحسبهم الجاهل } بحالهم { أغنياء من التّعفّف } أي من أجل تعففهم عن السؤال . والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم ، ورضا عنه ، وشرف نفس . { تعرفهم بسيماهم } بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى : { سيماهم في وجوههم } {[1438]} . وقال : { ولتعرفنّهم في لحن القول } {[1439]} . وفي الحديث الذي في ( السنن ) {[1440]} : / ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ : { إن في ذلك لآيات للمتوسّمين } {[1441]} ) . قاله ابن كثير .

قال الغزاليّ : ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة ، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل ، ممن يكون مستترا مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى . أو يكون من أهل المروة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته . فهو يتعيش في جلباب التجمل . فثوابُ صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال . كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة كأن يكون أهل علم . فإن ذلك إعانة له على العلم . والعلم أشرف العبادات مهما صحّت فيه النيّة . وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم . فقيل له : لو عممت ! فقال : إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء . فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم . فتفريغهم للعلم أفضل .

لطيفة :

السيما مقصور ، كالسيمة ، والسيماء والسيمياء ( ممدودين بكسرهن ) والسومة ( بالضم ) : العلامة . قال أبو بكر بن دريد : قولهم : عليه سيما حسنة ، معناه علامة . وهي مأخوذة من وسمت أَسِمُ . والأصل في ( سيما ) وسمى . فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين ، كما قالوا : ما أطيبه وأيطبه ، فصار سومي . وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، قال السمين : فوزن سيما عفلا . وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق . إما واو أو ياء . فهي كعلباء ملحقة بسرداح . فالهمزة للإلحاق لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك . انتهى .

{ لا يسألون الناس إلحافا } مصدر في موضع الحال . أي ملحفين . يقال : ألحف عليه إلخ قال الزمخشريّ : الإلحاف الإلحاح . وهو اللزوم . وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه . من قولهم : لحفني من فضل لحافه . أي أعطاني من فضل ما عنده . قيل معنى الآية : إن سألوا سألوا / بتلطف ولم يلحوا . فيكون النفي متوجهاً إلى القيد وحده . والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعاً . فمرجع النفي إلى القيد ومقيده كقوله : { ولا شفيع يطاع } {[1442]} وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا . واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك . وفي ( الصحيحين ) {[1443]} عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف . اقرؤوا إن شئتم : { لا يسألون الناس إلحافا } {[1444]} ) وأخرج ابن أبي شيبة والبخاريّ ومسلم{[1445]} والنسائيّ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم ) . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود{[1446]} والترمذيّ وصححه ، والنسائيّ وابن حبّان عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه ، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك . إلا أن يسأل ذا سلطان ، أو في أمر لا يجد منه بداً ) . وأخرج أحمد{[1447]} عن ابن عمر : / سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة . فمن شاء استبقى على وجهه ) . وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم{[1448]} وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر ) . وأخرج أحمد وأبو داود{[1449]} وابن خزيمة عن سهل بن الحنظلية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم . قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : ما يغذيه أو يعشيه ) . وأخرج مسلم{[1450]} والترمذيّ والنسائيّ عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال : ( كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلنا علام نبايعك ؟ قال : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . والصلوات الخمس . وتطيعوا ولا تسألوا الناس . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه ) .

وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري{[1451]} ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه ) . وأخرج الطبرانيّ والبيهقيّ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الله يحب المؤمن المحترف ) . وأخرج أحمد والطبرانيّ وأبو داود والنسائيّ{[1452]} عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من استغنى / أغناه الله ومن استعف أعفه الله . ومن استكفى كفاه الله . ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ) . وأخرج البخاري{[1453]} ومسلم والنسائي عن ابن عمر ( أن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني . فقال : خذه . إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله . فإن شئت كله وإن شئت تصدق به . ومالا ، فلا تتبعه نفسك ) .

قال سالم بن عبد الله ( فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أُعْطِيَهُ ) . { وما تنفقوا من خير } أي ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم { فإن الله به عليم } أي بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره ، فيجازي بحسبه .


[1438]:[48/ الفتح/ 29] ونصها: {محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجّدا يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التّوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما 29}.
[1439]:[47/ محمد صلى الله عليه وسلم/ 30] ونصها: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم 30}.
[1440]:أخرجه الترمذيّ في: 44 ـ كتاب التفسير، 15 ـ سورة الحجر، 6 ـ حدّثنا محمد بن إسماعيل.
[1441]:[15/ الحجر/ 75].
[1442]:[40 / غافر / 18] ونصها: {وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع 18}.
[1443]:أخرجه البخاري في: 65 ـ كتاب التفسير، 2 ـ سورة البقرة، 38 ـ باب: {لا يسألون الناس إلحافا}.
[1444]:[2 / البقرة / 273] ونصها: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم 273}.
[1445]:أخرجه مسلم في: 12 ـ كتاب الزكاة، حديث 103 (طبعتنا).
[1446]:أخرجه أبو داود في: 9 ـ كتاب الزكاة، 26 ـ باب كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة، حديث 1639.
[1447]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة 94 من الجزء الثاني (طبعة الحلبيّ).
[1448]:أخرجه مسلم في: 12 ـ كتاب الزكاة، حديث 105 (طبعتنا).
[1449]:أخرجه أبو داود في: 9 ـ كتاب الزكاة، 24 ـ باب من يعطى من الصدقة وحدّ الغنى حديث 1629.
[1450]:أخرجه مسلم في: 12 ـ كتاب الزكاة، حديث 108 (طبعتنا).
[1451]:أخرجه البخاري في: 24 ـ كتاب الزكاة، 50 ـ باب الاستعفاف عن المسألة، حديث 782.
[1452]:أخرجه النسائي في: 23 ـ كتاب الزكاة، 89 ـ باب في المحلف.
[1453]:أخرجه البخاري في: 93 ـ كتاب الأحكام، 17 ـ باب رزق الحكام والعاملين عليها.