قوله تعالى : ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيامهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) اللام في قوله : ( للفقراء ) متصلة باسم محذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة . فيكون تقدير الكلام : الصدقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله .
والمراد بالفقراء ، أولئك المهاجرين الذين ( أحصروا ) أي حبسوا في سبيل الله فانقطعت عنهم أسباب العيش والارتزاق . وذلك بعد أن هجروا الدار والأهل والمال في مكة نازحين إلى المدينة ؛ ابتغاء رضوان الله ولكي يتمكنوا من عبادة ربهم سالمين آمنين .
وقوله : ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) الضرب هو السفر . وذلك كقوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) فالمهاجرون الذين انقطعت بهم السبل في المدينة بعد أن هجروا مكة حيث المشركون والفتنة لا يستطيعون السفر خارج المدينة طلبا للرزق والمعاش .
قوله : ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) المقصود بالجاهل الذي يجعل حقيقة حالهم وأمرهم . فهو لا يعرف فقرهم وسوء حالهم ؛ لما يراه في ظاهرهم من علو الهمة وحسن المظهر . فهو بذلك يحسبهم ( أغنياء من التعفف ) أي يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء . وهم في الحقيقة ليسوا أغنياء ولكنهم متعففون . والتعفف معناه التنزه وترفع النفس والعزف عما يهبط بها أو يشينها .
وفي هذا الصدد الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا " {[356]} .
وقوله : ( تعرفهم بسيامهم ) السيما معناها العلامة ، والمراد أن هؤلاء المهاجرين المتعففين تعرف فيهم الفقر ورقة الحال وشدة العوز ، لما يغشاهم من علامات تدل على ذلك . والمقصود بسيامهم التي تدل عليهم ما يبدو في وجوههم وظاهرهم من أثر التواضع والفاقة وافتقاد الخير والنعمة ؛ لأنهم محصورون لله ، وقد انقطعت بهم الأسباب فلا يستطيعون سفرا ولا سعيا لعيش أو ارتزاق .
قوله : ( لا يسألون الناس إلحافا ) ( إلحافا ) مصدر في موضع الحال منصوب . . . والإلحاف بمعنى الإلحاح في الطلب{[357]} وتلك هي أخلاق المؤمنين الصابرين الذين يكونون في فاقة وعوز ، لكنهم يتعففون عن تكفف الناس فلا يسألونهم إلحافا ، مع أنهم محتاجون للعون والعطاء . وهذا الصنف من الناس قد استوصى الله بهم خيرا من أجل أن يعطيهم الأغنياء أو الدولة من مال الله الذي آتاهم . وهؤلاء يوصي بهم الرسول ( ص ) فيما رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- : " ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين المتعفف اقرأوا إن شئتم ( لا يسألون الناس إلحافا ) . وهذه الجملة في محل نصب حال ، وكذلك ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) جملة فعلية في محل نصب حال من الفقراء . وكذلك ( تعرفهم بسيامهم ) {[358]} وفي حقيقة المسكين روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة ، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا " .
وفي معنى قوله تعالى : ( لا يسألون الناس إلحافا ) ثمة قولان للعلماء أولهما : أنهم لا يسألون البتة ولا يتكففون أحدا وأنهم دائما متعففون ، فهم بذلك لا يسألون الناس ، سواء كان ذلك إلحافا أو غير إلحاف ، فالتعفف شأن وديدان . وذلك الذي ذهب إليه جمهور المفسرين وهو الراجح .
ثانيهما : أن المراد نفي الإلحاف فقط ، أما إن سألوا الناس غير ملحفين فلا بأس . وهو قول مرجوح .
ولا يفوتنا أن نبين النهي عن المسألة مع الغنى وأن ذلك حرام ، ولا يسأل أحد غيره وهو غني إلا كان آثما إثما يودي به إلى عذاب الله . يقول الرسول ( ص ) فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : " من سأل الناس أموالهم تكثّروا فإنما يسأل جمرا فليستقلّ أو ليستكثر " .
وروى مسلم أيضا عن ابن عمران أن النبي ( ص ) قال : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم " المزعة بضم الميم معناها القطعة . وقوله ( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) ذلك ترغيب من الله للمؤمنين ، كيما ينفقوا في سخاء ليغيثوا المحاويج والمكروبين وليدفعوا عن الفقراء والعالة خلتهم ، فإنه ليس من نفقة يؤديها هؤلاء إلا والله يعلمها ، وهو سبحانه سيجازيهم عنها خير الجزاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.