الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } : في تعلُّقِ هذا الجارِّ خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه سياقُ الكلامِ ، واختلفت عباراتُ المُعْربين فيه ، فقال مكي - ولم يذكُرْ غيرَه - : " أَعْطُوا للفقراءِ " وفي هذا نظرٌ ، لأنه يلزمُ زيادةُ اللامِ في أحدِ مفعولَي أعطى ، ولا تُزادُ اللامُ إلا لضعفِ العامل : " إمَّا بتقدُّمِ معمولِهِ كقولِهِ تعالى : { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، وإمَّا لكونِه فرعاً نحو قولِهِ تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ويَبْعُد أن يُقالَ : لمَّا أُضْمِرَ العاملُ ضَعُفَ فَقَوِيَ باللامِ ، على أنَّ بعضَهم يُجيز ذلك وإنْ لم يَضْعُفِ العاملُ ، وجَعَلَ منه { رَدِفَ لَكُم }

[ النمل : 72 ] ، وسيأتي بيانُهُ في موضعه إن شاء الله تعالى : وقَدَّرَهُ أبو البقاء : " اعجبوا للفقراء " وفيه نظرٌ ، لأنه لا دلالة من سياقِ الكلامِ على العَجَبِ ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : " اعْمدوا أو اجعَلوا ما تُنْفقون " والأحسنُ من ذلكَ ما قدَّره مكي ، لكنْ فيه ما تقدَّم .

الثاني : أنَّ هذا الجارَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، تقديرُهُ : الصدقاتُ أو النفقاتُ التي تُنْفِقُونَهَا للفقراء ، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنهم لَمَّا حُثُّوا على الصدقاتِ قالوا : فلمَنْ هي ؟ فَأُحِثُّوا بأنها لهؤلاء ، وفيها فائدةُ بيانِ مَصْرِفِ الصدقاتِ . وهذا اختيارُ ابنِ الأنباري قال : " كما تقول : " عاقل لبيب " ، وقد تقدَّم وصفُ رجل ، أي : الموصوفُ عاقلٌ ، وتكتبون على الأكياس : " ألفان ومئتان " ، أي : الذي في الكيس ألفان . وأنشد :

تسأَلُنِي عن زوجِها أيُّ فتى *** خَبٌّ جَروزٌ وإذا جاعَ بكى

يريد : هو خَبّ .

الثالث : أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بقولِهِ : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 271 ] وهو مذهبُ القَفَّال ، واستبعَدَه الناسُ لكثرةِ الفواصِلِ .

الرابع : أنه متعلِّقٌ بقولِه : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } وفي هذا نظرٌ من حيث إنه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ ، فيصيرُ نظيرَ قولِك : " مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً . وقد صَرَّح بالمنع من ذلك - مُعَلِّلاً بما ذَكرتُه - الوَاحديُّ فقال : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذه اللام " تنفقوا " الأخيرَ في الآيةِ المتقدمةِ ، لأنه لا يُفْصَلُ بين العاملِ والمعمولِ بما ليس منه كما لا يجوزُ : " كانت زيداً الحُمَّى تأخُذُ " .

الخامس : أَنَّ " للفقراء " بدلٌ من قولِه : " فلأنفسِكم " ، وهذا مردودٌ قال الواحدي وغيرُه : " لأنَّ بدلَ الشيءِ من غيرهِ لا يكونُ إلا والمعنى مشتملٌ عليه ، وليس كذلك ذِكْرُ النفسِ ههنا ، لأنَّ الإِنفاقَ من حيث هو عائدٌ عليها ، وللفقراءِ من حيث هو واصلٌ إليهم ، وليس من بابِ

{ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] لأنَّ الأمرَ لازمٌ للمستطيع خاصةً " قلت : يعني أنَّ الفقراءَ ليسَتْ هي الأنفسَ ولا جزءاً منها ولا مشتملةً عليها ، وكأن القائلَ بذلك توهَّم أنه من بابِ قولِه تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] في أحدِ التأويلين .

والفقيرُ : قيل : أصلُه من " فَقَرَتْه الفاقِرة " أي : كَسَرَتْ فَقارَ ظهرِه الداهيةُ . قال الراغب : " وأصلُ الفقيرِ : هو المكسور الفَقار ، يقال : فَقَرَتْه الفاقرةُ " أي : الداهية تكسِر الفَقار ، و " أَفْقَرك الصيدُ فارمِه " أي أَمْكَنَكَ من فَقارِه . وقيل : هو من الفُقْرَة أي الحُفْرة ، ومنه قيل لكل حفرةٍ يجتمع فيها الماءُ : فقيرٌ . وَفَقَرْتُ للغسيلِ حَفَرْتُ له حُفْرة : غرسْتُه فيها . قال :

ما ليلةُ الفقيرِ إلا شيطانْ *** . . . . . . . . . . . . .

قيل : هو اسم بئر . وَفَقَرْتُ الخَرَزَ : ثقبتُه . وقال الهروي : يُقال " فَقَره " إذا أصاب فَقَار ظهرِه نحو : رَأَسه أي : أصاب رَأْسَه ، وَبَطَنه : أي أصاب بطنه . وقال الأصمعي : " الفَقْر : أَنْ يُحَزَّ أنفُ البعير حتى يَخْلُص الحَزُّ إلى العَظْمِ ، ثم يُلْوى عليه جريرٌ يُذَلَّلُ به الصَّعْبُ من الإِبل ، ومنه قيل : عَمِل به الفاقرِة " . والفِقَرات - بكسر الفاء وفتح القاف - : جمع فِقَرة : الأمورُ العظام ، ومنه حديث السعي : " فِقَراتُ ابنِ آدم ثلاثُ : يوم وُلد ويومَ يموتُ ، ويوم يُبْعَثُ " والفُقَر : بضمِّ الفاءِ وفتحِ القافِ - جمع فُقْرَة وهي الحَزُّ وخَرْم الخَطْم ، ومنه قول أبي زياد : " يُفْتقَرُ الصَعبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خَطْمِه " ومنه حديثُ سعد : " فأشار إلى فُقَرٍ في أنفه " أي شَقٍّ وحَزٍّ/ . وقد تقدَّم الكلام في الإِحصارِ ، والفرقُ بين فَعَل وأَفْعَل منه .

قوله : { فِي سَبِيلِ } يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه فيكونَ ظرفاً له . والثاني : أن يكونَ متعلِّقَاً بمحذوفٍ على أنه حال من مرفوع " أُحْصِروا " أي : مستقرين في سبيلِ اللهِ . وقَدَّره أبو البقاء بمجاهِدين في سبيل الله " فهو تفسيرُ معنىً لا إعراب ، لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّقُ إلا بالكونِ المطلقِ .

قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } في هذه الجملةِ احتمالان ، أظهرُهما : أنها حالٌ ، وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه " الفقراء " وثانيهما : أنه مرفوعُ " أُحْصِروا " . والاحتمالُ الثاني : أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ . و " ضرباً " مفعولٌ به ، وهو هنا السفرُ للتجارةِ ، قال :

لَحِفْظُ المالِ أيسرُ مِنْ بقاه *** وضربٌ في البلادِ بغير زاد

يقال : ضَرَبْتُ في الأرض ضرباً ومَضْرِباً أي : سِرْتُ .

قوله : { يَحْسَبُهُمُ } يجوزُ في هذه الجملةِ ما جازَ فيما قبلها من الحاليةِ والاستئنافِ ، وكذلك ما بعدَها . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : " يَحْسَبُ " - حيث ورد - بفتح السين والباقونَ بكسرِها . فأمَّا القراءةُ الأولى فجاءَتْ على القياسِ ، لأنَّ قياسَ فَعِل بكسر العين يَفْعَل بفتحِها لتتخالفَ الحركتان فيخِفَّ اللفظُ ، وهي لغةُ تميم والكسرُ لغةُ الحجاز ، وبها قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شَذَّتْ ألفاظٌ أُخَرُ جاءت في الماضي والمضارع بكسرِ العينِ منها نَعِم يَنْعِم ، وبَئِس يَبْئِسُ ، ويَئِس يَيْئِس ، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة ، وعَمِد يَعْمِد ، وقياسُها كلُّها الفتحُ ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال ، والقارىء بلغةِ الكسر اثنان من كبار النحاة أبو عمرو - وكفى به - والكسائي ، وقارئا الحرمين نافع وابن كثير .

والجاهلُ هنا : اسمُ جنسٍ لا يُراد به واحدٌ بعينه . و " أغنياءَ " هو المفعول الثاني .

قوله : { مِنَ التَّعَفُّفِ } في " مِنْ " هذه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها سببية ، أي : سَبَبُ حُسْبانِهم أغنياءَ تعفُّفُهم فهو مفعولٌ من أجله ، وجَرُّه بحرفِ السبب هنا واجبٌ لفَقْدِ شرطٍ من شروطِ النصبِ وهو اتحادُ الفاعلِ ، وذلك أنَّ فاعلَ الحُسْبان الجاهلُ ، وفاعلَ التعفف هم الفقراءُ ، ولو كان هذا المفعولُ له مستكملاً لشروطِ النصبِ لكان الأحسنُ جَرَّه بالحرف لأنه معرَّفٌ بأل ، وقد تقدَّم أنَّ جَرَّ هذا النوعِ أحسنُ من نصبِه ، نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبُه ، قال :

لا أقعدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ *** ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ

والثاني : أنها لابتداءِ الغايةِ ، والمعنى أنَّ مَحْسَبَةَ الجاهلِ غِناهم نَشَأَتْ من تعفُّفهم لأنه لا يَحْسَب غناهم غنى تعففٍ ، إنما يحسَبُه غنى مالٍ ، فقد نشأَتْ مَحْسَبَتُه مِنْ تعفُّفهِم ، وهذا على أنَّ تعفَّفَهم تعففٌ تام . والثالث : أنها لبيانِ الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : " يكونُ التعففُ داخلاً في المَحْسَبة ، أي : إنه لا يظهرُ لهم سؤالٌ بل هو قليلٌ ، فالجاهلُ بهم مع علمِه بفقرِهم يحسَبُهم أغنياءَ عنه ، ف " مِنْ " لبيانِ الجنس على هذا التأويلِ ، قال الشيخ : " وليس ما قالَه من أنَّ " مِنْ " هذه في هذا المعنى لبيانِ الجنس المصطلحَ عليه ، لأنَّ لها اعتباراً عند القائل بهذا المعنى وهو أن تتقدّرَ " مِنْ " بموصولٍ ، وما دَخَلَت عليه يُجْعَلُ خبرَ مبتدأ محذوفٍ كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] يَصِحُّ أَنْ يُقال : الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : " يَحْسَبهم الجاهلُ أغنياءَ الذي هو التعفف " لم يَصِحَّ هذا التقديرُ ، وكأنه سَمَّى الجهةَ التي هم أغنياءُ بها بيانَ الجنسِ أي : بَيَّنَتْ بأيِّ جنسٍ وَقَع غناهم ، أي غناهم بالتعففِ لا غنى بالمالِ ، فَسَمَّى " مِنْ " الداخلةَ على ما يبيِّن جهة الغنى ببيانِ الجنس ، وليس المصطلحَ عليه كما قَدَّمناه ، وهذا المعنى يَؤُول إلى أنَّ " مِنْ " سببية ، لكنها تتعلق بأغنياء لا بيحسَبهم . انتهى " .

وتتعلَّقُ " مِنْ " على الوجهين الأوَّلَيْنِ بيَحْسَبهم . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمعنى " أغنياء " لأنَّ المعنى يَصيرُ إلى ضد المقصود وذلك أنَّ معنى الآية أنَّ حالَهم يَخْفَى على الجاهلِ بهم فيظنُّهم أغنياءَ ، ولو عُلِّقَتْ " مِنْ " بأغنياءَ صار المعنى أنَّ الجاهلَ يَظُنُّ أنهم أغنياءُ ولكن بالتعفف ، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ في المال " .

انتهى ، وما قاله أبو البقاء يحتملُ بحثاً .

وأما على الوجه الثالث - وهو كونُها لبيانِ الجنس - فقد صَرَّح الشيخ بتعلُّقها بأغنياء ، لأن المعنى يعودُ إليه ، ولا يجوزُ تعلُّقها في هذا الوجهِ بالحُسْبان ، وعلى الجملةِ فكونُها لبيانِ الجنسِ قَلِقُ المعنى .

والتعفُّفُ : تَفَعُّل من العِفَّة ، وهي تَرْكُ الشيء ، والإِعراضُ عنه مع القدرةِ على تعاطِيه ، قال رؤبة :

فَعَفَّ عن أسرارِها بعد الغَسَقْ *** ولم يَدَعْها بعد فَرْكٍ وعَشَقْ

وقال عنترة :

يُخْبِرْكَ مَنْ شهدَ الوقيعةَ أنني *** أغشى الوغَى وأعِفُّ عند المَغْنَمِ

ومنه : " عفيفُ الإِزار " كنايةٌ عن حصانته . / وعَرَّف التعففَ لأنه سَبق منهم مراراً فصار كالمعهود ، ومتعلَّقٌ التعففِ ، محذوفٌ اختصاراً . أي : عن السؤالِ ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ .

قوله : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } السِّيما - العلامةُ ويجوز مَدُّها وإذا مُدَّتْ فالهمزةُ فيها منقلبةٌ عن حرفٍ زائدٍ للإِلحاقِ : إمَّا واوٌ ، وإمَّا ياء ، فهي كعِلْباء ملحقةً بسِرْداح ، فالهمزةُ للإلحاقِ لا للتأنيث وهي منصرفةٌ لذلك .

و " سيما " مقلوبةٌ قٌدِّمَتْ عينُها على فائها لأنها مشتقةٌ من الوَسْم فهي بمعنى السِّمة أي العلامةُ ، فلما وقَعَتْ الواوُ بعد كسرةٍ قُلبت ياءً ، فوزنُ سيما : عِفْلا ، كما يقال اضْمَحَلَّ ، وامضَحَلَّ ، [ و ] و و " خِيمة " و " خامة " ، وله جاه ووجَهْ ، أي : وَجاهة .

وفي الآيةِ طباقٌ في موضعينِ ، أحدُهما : " أُحْصِروا " مع قوله : { ضَرْباً فِي الأَرْضِ } ، والثاني قوله " أغنياءَ " مع قوله " للفقراءِ " نحو : { أَضْحَكَ وَأَبْكَى } { وَأَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 43 ] . ويقال " سِيمِيا " بياء بعد الميم ، وتُمَدُّ كالكيمياء . وأشد :

غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْنِ يافعاً *** له سِيمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ

والباءُ تتعلَّق ب " تَعْرِفهم " ومعناها السببية ، أي : إنَّ سببَ معرفتِك إياهم هي سِيماهم .

قوله : { إِلْحَافاً } في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : نصبُه على المصدرِ بفعلٍ مقدَّر أي : يُلْحِفون إلحافاً ، والجملةُ المقدرةُ حالٌ من فاعل " يَسْألون " والثاني : أن يكونَ مفعولاً من أجلِه ، أي : لا يَسْألون لأجلِ الإِلحافِ . والثالث : أن يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ تقديرُه : لا يَسْألون مُلْحِفين .

واعلمْ أنَّ العربَ إذا نَفَتِ الحكمَ عن محكومٍ عليه فالأكثرُ في لسانِهم نَفْيُ ذلك القيدِ ، نحو : " ما رأيتُ رجلاً صالحاً " ، الأكثرُ على أنك رأيت رجلاً ولكن ليسَ بصالحٍ ، ويجوزُ أنَّكَ لم تَرَ رجلاً البتةَ لا صالحاً ولا طالحاً ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } المفهومُ أنهم يسألونَ لكن لا بإلحاف ، ويجوز أن يكونَ المعنى : أنهم لا يَسْألون ولا يُلْحِفون ، والمعنيان منقولان في التفسير . والأرجحُ الأولُ عندهم ، ومثلُه في المعنى : " ما تأتينا فتحدثنا " يجوز أنه يأتيهم ولا يحدِّثُهم ، ويجوزُ أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثُهم ، انتفى السبب وهو الإِتيانُ فانتفى المُسَبَّبُ وهو الحديثُ .

وقد شَبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآيةِ الكريمة بمعنى بيت امرىء القيس وهو قوله :

على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ *** إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا

قال الشيخ : " تشبيهُ الزجاج إنما هو في مُطْلَقِ انتفاءِ الشيئين أي : لا سؤالَ ولا إلحافَ ، وكذلك هذا : لا منارَ ولا هدايةَ ، لا أنه مثلُه في خصوصية النفي ، إذ كان يلزمُ أن يكون المعنى : لا إلحافَ فلا سؤالَ ، وليس تركيبُ الآيةِ على هذا المعنى ، ولا يَصِحُّ : لا إلحافَ فلا سؤالَ لأنه لا يلزمُ من نفي الخاص نفيُ العام ، كما لَزِم من نفيِ المنارِ نفيُ الهداية التي هي من بعض لوازمِهِ ، وإنما يُؤدِّي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب : " لا يُلْحِفون الناسَ سؤالاً " لأنه يلزمُ من نفيِ السؤال نفيُ الإِلحافِ ، إذ نفيُ العامِّ يَدُلُّ على نفيِ الخاص . فتلخَّص من هذا كلَّه أنَّ نَفْيَ الشيئين : تارةً تُدْخِلُ حرفِ النفي على شيءٍ فتنتفي جميعُ عوارضِه ، وتُنَبِّهُ على بعضِها بالذكرِ لغرضٍ ما ، وتارةً تُدْخِلُ حرفَ النفي على عارضٍ مِنْ عوارضِه ، والمقصودُ نفيهُ فتنتفي لنفيهِ عوارضُه " .

قلت : قد سَبَقه ابنُ عطية إلى هذا فقال : " تَشْبيهُه ليس مثلَه خصوصيةِ النفي ، لأنَّ انتفاءَ المنارِ في البيتِ يَدُلُّ على نفي الهدايةِ ، وليس انتفاءُ الإِلحاحِ يدلُّ على انتفاءِ السؤالِ . " وأطالَ ابنُ عطية في تقريرِ هذا وجوابُه ما تقدم : من أنَّ المرادَ نفيُ الشيئين لا بالطريقِ المذكورِ في البيتِ ، وكان الشيخُ قد قال قبلُ ما حكيته عنه آنفاً : " ونظيرُ هذا : ما تَأْتينا فتحدِّثَنا " فعلى الوجه الأول يعني نفيَ القيدِ وحدَه : ما تأتينا مُحَدِّثاً ، إنما تأتي ولا تحدِّثُ ، وعلى الوجه الثاني يعني نفيَ الحكمِ بقيده ب " ما يكون منك إتيانٌ فلا يكونُ حديثٌ " ، وكذلك هذا : لا يقعُ منهم سؤالٌ البتَّةَ فلا يقعُ إلحاحٌ ، ونَبَّه على نفي الإلحاحِ دونَ غيرِ الإِلحاح لقبحِ هذا الوصفِ ، ولا يُرَادُ به نفيُ هذا الوصفِ وحدَه ووجودُ غيرِه ؛ لأنه كانَ يَصيرُ المعنى الأول ، وإنما يُراد بنفي هذا الوصفِ نفيُ المترتباتِ على المنفيِّ الأولِ ، لأنه نَفَى الأولَ على سبيل العمومِ فتنتفي مترتِّباتُه ، كما أنك إذا نَفَيْتَ الإِتيانَ فانتفى الحديثُ انتفى جميعُ مترتِّباتُ الإِتيانِ من المجالسةِ والمشاهدةِ والكينونةِ في محلٍّ واحد ، ولكنَ نبَّه بذكرِ مترتِّب واحدٍ لغرضٍ ما على ذِكْرِ سائرِ المترتِّبات ، قلت : وهو تقريرٌ لِمَا تَقدَّم .

وأمَّا الزمخشري فكأنه لم يَرْتَضِ تشبيهَ الزجاج ، فإنه قال : " وقيل : هو نفيٌ للسؤالِ ، والإِلحاف جميعاً كقوله :

على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد نفيَ المنارِ والاهتداءِ به " .

وطريقُ أبي إسحاق الزجاج هذه قد قَبِلها الناسُ ونَصَروها واستحسنوا تنظيرَها بالبيت كالفارسي وأبي بكر بن الأنباري ، قال أبو علي : " لم يُثْبِتْ في قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } مسألةً فيهم ، لأن المعنى : ليس منهم مسألةٌ فيكونَ منهم إلحافٌ ، ومِثْلَ ذلك قولُ الشاعر :

لا يَفْزَعُ الأرنبُ أهوالَها *** ولا ترى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ

أي : ليس فيها أرنبٌ فيفزعَ لهولِها ولا ضَبُّ فينجحرَ ، وليس المعنى أنه ينفي الفزعَ عن الأرنبِ والانجحار عن الضب . وقال أبو بكر : " تأويلُ الآية : لا يسألون البتةَ فيخرجهم السؤالُ في بعض الأوقات إلى الإِلحافِ ؛ فجَرى هذا مَجْرى قولِك :/ فلان لا يُرْجى خيرُه أي : لا خيرَ عنده البتة فيُرْجى ، وأنشد قول امرىء القيس :

وصُمٌّ صِلابٌ ما يَقِين من الوَجَى *** كأنَّ مكانَ الرَّدْفِ منه على رَالِ

أي : ليس بهن وَجَى فيشتكينَ من أجله ، وقال الأعشى :

1091 - لا يَغْمِزُ الساقَ مِنْ أَيْنٍ ولا وَصَبٍ *** ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَرُ

معناه : ليس بساقِه أَيْنٌ ولا وصبٌ فيغمزَها . وقال الفراء قريباً منه فإنه قال : " نفى الإِلحاف عنهم وهو يريدُ جميعَ وجوهِ السؤال كما تقول في الكلام : " قَلَّ ما رأيتُ مثلَ هذا الرجل " ولعلك [ لم تَرَ قليلاً ولا كثيراً من أشباهه ] . جَعَل أبو بكر الآيةَ عند بعضِهم من بابِ حَذْفِ المعطوف ، وأن التقدير : لا يسألونَ للناسَ إلحافاً ولا غيرَ إلحاف . كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي : والبردَ .

والإِلحافُ والإِلحاحُ واللَّجاجُ والإِحفاءُ ، كلُّه بمعنى ، يقال : ألحفَ وألحَّ في المسألةِ : إذا لَجَّ فيها . وفي الحديثِ : " مَنْ سَأَلَ وله أربعون فقد أَلْحَفَ " ، واشتقاقُه من اللِّحاف ، لأنه يشتملُ الناسَ بمسألتِه ويَعُمُّهم . كما يشتملُ اللِّحافُ من تحتِه ويُغَطِّيه ، ومنه قولُ ابن أحمر يصفُ ذَكَرَ نعامٍ يَحْضُن بيضَه بجناحَيه ويجعلُ جناحَه لها كاللحاف :

يظلُّ يَحُفُّهُنَّ بقَفْقَفَيْهِ *** ويَلْحَفُهُنَّ هَفْهافاً ثَخِينا

وقال آخرُ في المعنى :

ثم راحوا عَبَقُ المِسْكِ بهم *** يُلْحِفُون الأرضَ هُدَّابَ الأَزُرْ

أي : يُلْبِسونها الأرضَ كإلباسِ اللحافِ للشيءِ . وقيل : بل اشتقاقُ اللفظةِ من " لَحْفِ الجبل " وهو المكانُ الخَشِنُ ، ومجازُه أنَّ السائلَ لكثرة سؤالِه كأنه استعمل الخشونةَ في مسألتِه ، وقيل : بل هي " من لحَفَني فلانٌ " أي أعطاني فَضْلَ ما عنده ، وهو قريبٌ من معنى الأول .